أهمية القدوة الحسنه : إن من الوسائل المهمة جدًا في تبليغ الدعوة إلى الله وجذب الناس إلى الِإسلام وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، القدوة الطيبة للداعي وأفعاله الحميدة وصفاته العالية وأخلاقه الزاكية مما يجعله أسوة حسنة لغيره ، يكون بها أنموذجًا يقرأ فيه الناس معاني الِإسلام فيقبلون عليها وينجذبون إليها ، لأن التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر من التأثر بالكلام وحده .
إن الِإسلام انتشر في كثير من بلاد الدنيا بالقدوة الطيبة للمسلمين التي كانت تبهر أنظار غير المسلمين وتحملهم على اعتناق الِإسلام ، فالقدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته الطيبة هي في الحقيقة دعوة عملية للِإسلام يستدل بها سليم الفطرة راجح العقل من غير المسلمين على أن الِإسلام حق من عند الله .
ومن السوابق القديمة في أهمية السيرة الحسنة للداعي وأثرها في تصديقه والإِيمان بما يدعو إليه أن أعرابيًا جاء إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فقال له : من أنت ؟ قال :
أنا محمد بن عبد الله قال الأعرابي : أأنت الذي يقال عنك إنك كذاب ؟ فقال :
أنا الذي يزعمونني كذلك فقال الأعرابي : ليس هذا الوجه وجه كذاب ، ما الذي تدعو إليه ؟ فذكر له رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ما يدعو إليه من أمور الِإسلام فقال له الأعرابي : آمنت بك وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله .
فالأعرابي استدلَّ بسَمْت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ووجهه المنير الكريم الذي يكون عليه أهل الصدق والأخلاق الكريمة ، استدلَ بذلك على صدقه فيما يدعو إليه ، صلى الله عليه وسلم .
وتكمن أهمية القدوة الحسنة في الأمور الآتية : 1- المثال الحي المرتقي في درجات الكمال ، يثير في نفس البصير العاقل قدرًا كبيرًا من الاستحسان والِإعجاب والتقرير والمحبة . ومع هذه الأمور تتهيج دوافع الغيرة المحمودة والمنافسة الشريفة ، فإن كان عنده ميل إلى الخير ، وتطلع إلى مراتب الكمال ، وليس في نفسه عقبات تصده عن ذلك ، أخذ يحاول تقليد ما استحسنه وأعجب به ، بما تولد لديه من حوافز قوية تحفزه لأن يعمل مثله ، حتى يحتل درجة الكمال التي رآها في المقتدى به .
2- القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل العالية تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة ، التي هي في متناول القدرات الإِنسانية وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال .
3- مستويات فهم الكلام عند الناس تتفاوت ، ولكن الجميع يتساوى أمام الرؤية بالعين المجردة لمثال حي . فإن ذلك أيسر في إيصال المعاني التي يريد الداعية إيصالها للمقتدى .
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر- رضيِ الله عنهما- قال : اتخذ النبي ، صلى الله عليه وسلم ، خاتمَا من ذهب ، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب ، فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم :
إني اتخذت خاتمًا من ذهب فنبذه وقال : إني لن ألبسه أبدًا ، فنبذ الناس خواتيمهم
.
قالت العلماء : " فدلَّ ذلك على أن الفعل أبلغ من القول " .
4- الأتباع ينظرون إلى الداعية نظرة دقيقة فاحصة دون أن يعلم ، فربَّ عمل يقوم به لا يلقي له بالًا يكون في حسابهم من الكبائر ، وذلك أنهم يعدونه قدوة لهم ، ولكي ندرك خطورة ذلك الأمر فلنتأمل هذه القصة . يروى أن أبا جعفر الأنباري صاحب الِإمام أحمد عندما أُخبر بحمل الإِمام أحمد للمأمون في الأيام الأولى للفتنة . عبر الفرات إليه فإذا هو جالس في الخان ، فسلم عليه ، وقال : يا هذا أنت اليوم رأسٌ والناس يقتدون بك ، فوالله لئن أجبتَ إلى خلق القرآن ليجيبنَّ بإجابتك خلق من خلق الله ، وإن أنت لم تجب ليمتنعنَّ خلق من الناس كثير ، ومع هذا فإن الرجل- يعني المأمون- إن لم يقتلك فأنت تموت ، ولا بد من الموت فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء . فجعل أحمد يبكي ويقول : ما قلت ؟ فأعاد عليه فجعل يقول : ما شاء الله ، ما شاء الله .
وتمر الأيام عصيبة على الِإمام أحمد ، ويمتحن فيها أشدّ الامتحان ولم ينس نصيحة الأنباري ، فها هو المروزي أحد أصحابه يدخل عليه أيام المحنة ويقول له : "يا أستاذ قال الله تعالى :
وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة النساء ، الآية : 29] . فقال أحمد : يا مروزي اخرج ، انظر أي شيء ترى !!! قال : فخرجتُ إلى رحبة دار الخليفة فرأيت خلقًا من الناس لا يحصي عددهم إلا الله والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر في أذرعتهم ، فقال لهم المروزي : أي شيء تعملون ؟ فقالوا : ننظر ما يقول أحمد فنكتبه ، قال المروزي : مكانكم . فدخل إلى أحمد بن حنبل فقال له : رأيت قومًا بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه فقال : يا مروزي أضل هؤلاء كلهم !! أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء" .
فمن أبرز أسباب أهمية القدوة أنها تساعد على تكوين الحافز في المتربي دونما توجيه خارجي ، وهذا بالتالي يساعد المتربي على أن يكون من المستويات الجيدة في المسالك الفاضلة من حسن السيرة والصبر والتحمل وغير ذلك .