هامش الفتوي
عبداللطيف فايد
سر الحفاوة بقدوم رمضان
كلما اقتربت أيام شهر رمضان يشعر
المؤمنون بالسعادة لاستقبالها مع ان هذه الأيام تفرض علي الناس الصيام وهو
حرمان من شهوات النفس وملذاتها من طلوع الفجر الصادق إلي غروب الشمس وذلك
في كل يوم من أيامه والنفوس عادة تسعد بالايجابية ولا تسعد بالحرمان ولكن
نفوس المؤمنين تسعد بالحرمان المشروع في هذا الشهر. فهذه حفاوة غير مألوفة
ولكنها حفاوة تغمرها السعادة بالحرمان. لأن هذا الحرمان يتم من المؤمنين
بأمر من الله سبحانه وتعالي والحرمان يعبر عنه الصيام لأن الصيام في
تعبيرات فقهاء الشريعة هو الامساك نهارا عن شهوتي البطن والفرج من طلوع
الفجر إلي غروب الشمس وهذه الفترة تستوعب اليوم كله الذي يتم فيه السعي
إلي الرزق ويقوم المؤمنون فيه بأعمالهم وايمان المؤمن لا يكتمل في هذا
الشهر إلا بالترحيب بالحرمان فيه والذين يعمدون فيه الي الراحة من العمل
بقدر ما يخطئون في حق هذا الشهر الذي يصفونه دائما بأوصاف طيبة فهو الشهر
الكريم وهو الشهر المبارك وهو شهر الهداية وهو الشهر الذي أنزله فيه
القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان ومن أجل ميزة نزول القرآن فيه
فرض الله صيامه علي المؤمنين حفاوة بالقرآن الذي أنزل الله فيه.
إن علي المؤمنين أن يتوقفوا عند وصف الله للقرآن بأنه هدي للناس
وبينات من الهدي والفرقان وهذا الوصف هو الذي من أجل ثباته للقرآن هو الذي
قضي الله فيه بأن يفرض صيامه وأن يجعل هذا الصيام ركنا من أركان الاسلام
وذلك بالحديث الشريف الذي يقول فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم: "بني
الاسلام علي خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله وإقام
الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا" وعلي
البشرية كلها ان تتدبر هذا الحديث الشريف الذي احصي الامور الخمسة التي
بني الاسلام عليها وجعل فيها الشهادة بالوحدانية لله والرسالة لنبيه
الخاتم شيئا واحدا فالشهادة لله بالوحدانية لا تحقق الايمان الكامل
فالايمان الكامل لا يتحقق إلا بهذه الوحدانية مع الرسالة الخاتمة للنبي
محمد صلي الله عليه وسلم وهي رسالة شاملة لدين الله الواحد الذي أرسل به
رسله جميعا والذي يتحقق بقول الله تعالي لنبيه الخاتم في الآية "163" من
سورة النساء "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلي نوح والنبيين من بعده..."
ووحي الله لأنبيائه لا يتناقض ولا يختلف بعضه مع بعض. وإذا كان الله
سبحانه وتعالي قد قضي علي الاحبار والرهبان في الرسالات السابقة علي
الاسلام أن يحفظوا كتابه الذي ارسله علي رسلهم ففرطوا فيه واختلفوا عليه
وتدخلوا في نصوصه بالتغيير فإنه سبحانه قد قضي أن يحفظ بقدرته ومشيئته
القرآن من التغيير والتبديل والتدخل فقال سبحانه في الآية "9" من سورة
الحجر "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" والذكر هو القرآن وقد تولي
الله حفظه وصدق الله سبحانه فيما أخبر به من هذا الحفظ ولذلك تري النص
القرآني واحدا في جميع بقاع الدنيا علي مدي الزمان كله منذ أنزله علي نبيه
الخاتم محمد صلي الله عليه وسلم وسيظل واحدا إلي أن تقوم الساعة وما هذا
الحفظ إلا ليكون القرآن هو الحامي لدين الله وليكون هو المرجع إلي دين
الله الخاتم بلا مرجع آخر يفضله أو يساويه وما ذلك كله إلا لإقامة الدليل
علي انه الكتاب وحده الذي يحقق المرجعية التي أرادها الله لدينه وليكون هو
الدستور بالتعبير الحديث الذي يرجع الناس إليه في الهداية ومن حكمة الله
سبحانه وتعالي أن جعل سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم شارحة للكتاب
ومفصلة لمجمله وجعلها مع الكتاب طريقا واحدا للهداية وذلك قول رسول الله
صلي الله عليه وسلم في خطبة الوداع للمؤمنين الذين أدوا الحج معه "لقد
تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي" وفي
رواية تضيف أمره صلي الله عليه وسلم للمؤمنين بالتمسك بهما اشد التمسك
وذلك بقوله: "عضوا عليهما بالنواجذ" والنواجذ هي مقدمة الاسنان وهذا
التعبير أمر علي المؤمنين ألا ينفكوا عنه.
ليس الصيام إذن هدفا لذاته وانما هو تكريم للشهر الذي انزل الله فيه
القرآن وشهر رمضان هو الوعاء الزمني لنزول القرآن فإذا كنا نكرم الوعاء
الزمني لنزول القرآن فالواجب أن نحفظ القرآن الذي كرم الله من أجله هذا
الوعاء بفرضية صيامه وتكريم هذا الوعاء أمر تحفظ له الأمة قدره وتتعدد فيه
وسائل التكريم وتتنوع ولكن يبقي رأس التكريم وقمته الذي يتمثل في العمل
بهذا القرآن فالقضية في تكريم القرآن ليست فقط في حفظه في الصدور والحفاوة
بحفاظه وانما هذا التكريم يتحقق كاملا في العمل به لأن هذا العمل هو طريق
الهداية الوحيد تحقيقا لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لقد تركت فيكم
ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي" والسنة هي الشارحة
للقرآن والمفصلة لمجمله فالتلازم بينهما قائم ولا فكاك منه وهذا كله هو سر
حفاوة المؤمنين بشهر رمضان الذي فرض الله صيامه حفظا لهذا السر العظيم.