الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنه ينبغي على كل مسلم أن يرجع إلى الله ويتوب إليه من جميع الذنوب والمعاصي وأن يتبع السيئة الحسنة لكي يتخلص من سيئاته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
فالتوبة والرجوع من معصية الله إلى طاعته أمرٌ عظيم، وأعظمها وأوجبها التوبة من الكفر إلى الإيمان. قال تعالى: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف" (الأنفال/38).
ثم يليها التوبة من كبائر الذنوب ثم من صغائرها. قال تعالى: "وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون" (النور/31) وقال -جل وعلا-: "وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه" (هود/3) وقال سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً" (التحريم/
فالواجب على المسلم أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى من كل ذنب، وأن لا يتهاون بالصغائر، فإن الصغيرة إذا تهاون بها العبد وأصرَّ عليها صارت كبيرة، وأن ينظر إلى عظمة من يعصيه، ولذلك قال بلال بن سعد -رحمة الله-: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت".
وقد جاءت أحاديث كثيرة تنهى عن الاستهانة بالذنب وعن الاستهانة بالصغائر:
فعن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بَطنَ وادٍ، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى جملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يُؤخَذُ بها صاحبها تهلكه" (رواه أحمد والبيهقي وصححه الألباني-صحيح الترغيب والترهيب).
وعن أنس رضي الله عنه قال: "إنكم لتعملون أعمالا هي أدَقُّ في أعينكم من الشَّعَر، إن كنَّا لَنعُدُّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات. يعني المهلكات" (رواه البخاري وأحمد).
عباد الله: إن الله -عز وجل- يفرح بتوبة عبده إليه، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" (رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه) وفي رواية عند مسلم عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة".
وكما جاء في الحديث المتفق على صحته عن الحارث بن سويد عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "للَّهُ أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوِّيَّه مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومةً، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحرُّ والعطش أو ما شاء الله، قال: أَرْجِعُ إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع يده على ساعده لِيَموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه! فالله أشدُّ فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته".
وفي هذا الحديث دليل على فرح الله -عز وجل- بالتوبة من عبده إذا تاب إليه، وأنه يحب ذلك سبحانه وتعالى محبة عظيمة، ولكن لا لأجل حاجته إلى أعمالنا وتوبتنا، فهو سبحانه غنيٌّ عنَّا ونحن الفقراء إليه، ولكن لمحبته سبحانه للكرم فإنه يحب أن يعفوا وأن يغفر أحبُّ إليه من أن ينتقم ويؤاخذ، ولهذا يفرح بتوبة الإنسان.
ومن كرمه سبحانه أنه يبسط يده ليلا ونهارا ليتوب على من تاب إليه كما جاء في الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها" (رواه مسلم والنسائي)
وفي هذا الحديث أيضاً دليل على أن التوبة لا تقبل إذا طلعت الشمس من مغربها، ويدل على ذلك أيضاً الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، تاب الله عليه"
كما أنه لا تقبل التوبة من الإنسان عندما تبلغ روحه حلقومه فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" (رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه الألباني-صحيح الترغيب والترهيب) ومن هنا يتبين أن التوبة لا تقبل إذا طلعت الشمس من مغربها، وإذا بلغت الروح الحلقوم.
يا عبدَ الله، يا من أثقلتك الذنوب والمعاصي، يا من آثرت الدنيا على الآخرة، سارع بالتوبة والرجوع إلى الله فإنك لا تدري متى يطرق ملك الموت عليك الباب، واعلم أنك إذا تبت ورجعت إلى الله بنية صادقة فإن الله سيبدل سيئاتك حسنات كما قال -جل وعلا-: "والذين لا يدعون مع الله إلهً آخر ولا يقتلون النفس التى حرَّم الله إلا بالحق ولا يزنون. ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا. إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحا فأولئك يبدِّل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيما" ( الفرقان/68-70)
والأحاديث التي تحثنا على التوبة كثيرة:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أخطأتم حتى تبلغ السماء، ثم تبتم، لتاب الله عليكم" (رواه ابن ماجة بإسناد جيد، وقال الألباني حسن صحيح-صحيح الترغيب والترهيب).
فانظروا عباد الله إلى فضل الله وكرمه تذنبون وتعصون وتسيئون وإذا تبتم غفر لكم وتاب عليكم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن عبداً أصاب ذنباً فقال: يا رب: إني أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال له ربه: علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، فغفره له، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنباً آخر، وربما قال: ثم أذنب ذنباً آخر، فقال يا رب إني أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي، قال ربه: علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنباً آخر، وربما قال: ثم أذنب ذنباً آخر، فقال يا رب إني أذنبت ذنبًا فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، فقال ربه غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء" (متفق عليه).
وأما قوله: "فليعمل ما شاء" معناه والله أعلم أنه ما دام كلما أذنب ذنباً استغفر وتاب منه ولم يعد إليه بدليل قوله: "ثم أصاب ذنباً آخر" فليفعل -إذا كان هذا دأبه- ما شاء، لأنه كلما أذنب كانت توبته واستغفاره كفارة لذنبه، فلا يضره، لا أنه يذنب الذنب فيستغفر منه بلسانه من غير إقلاع ثم يعاوده، فإن هذه توبة الكذَّابين.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أوصني. قال: "عليك بتقوى الله ما استطعت، واذكر الله عند كلِّ حجرٍ وشجر، وما عملت من سوء فأحدث له توبة، السِّر بالسِّر، والعلانية بالعلانية