هذا العام تصل السيدة "فيروز" عامها السبعين، إلا أنها ستظل في مخيلتنا تلك الفتاة الرقيقة التي جلست تغني لحبيبها تحت شباك زجاجي ملون في فيلم "يوسف شاهين" (بياع الخواتم) الذي أنتج في الستينيات من القرن الماضي، وهو أحد ثلاثة أفلام سينمائية فقط مثلتها "فيروز" في ذلك الزمان، أما الآخران فهما (سفر برلك)، و(بنت الحارس) للمخرج "هنري بركات".غنت "فيروز" للقمر وللبنات والصبيان والثلج والدروب والضيعة والحبيب والأزهار والوحدة، لكن أكثر غنائها كان للوطن، وللعودة إلى هذا الوطن، فغنت للقدس، وبيروت، ومصر، والكويت، ومكة المكرمة، وبغداد، كما غنت للسماء وملائكتها، وللعذراء والمسيح، ولمسرى الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم".الحياة الفيروزيةولدت "نهاد وديع حداد" في 21 نوفمبر 1935، وكانت "نهاد" -أو "فيروز" فيما بعد- هي الطفلة الأولى لهذه الأسرة البسيطة التي كانت تسكن في "زقاق البلاط" في الحي القديم القريب من العاصمة اللبنانية. كان الجيران يتشاركون مع أمها "ليزا البستاني" أدوات المطبخ في ذلك البيت المؤلف من غرفة واحدة، أما الأب الهادئ الطباع ذو الخلق الرفيع فكان يعمل في مطبعة تسمى “le jour”.كانت فيروز تحب الغناء منذ صغرها، إلا أن الأسرة لم تكن تستطيع شراء جهاز "راديو" فكانت تجلس إلى شباك البيت لتسمع صوته السحري قادمًا من بعيد حاملا أصوات "أم كلثوم"، و"عبد الوهاب"، و"أسمهان"، و"ليلى مراد".وفي حفلة المدرسة التي أقيمت عام 1946 أعلن الأستاذ "محمد فليفل" - أحد الأخوين فليفل اللذين لحنا النشيد الوطني السوري- عن اكتشافه الجديد، ألا وهو صوت "فيروز".رفض الأب المحافظ فكرة الأستاذ "فليفل" بأن تغني ابنته أمام العامة، لكن الأخير نجح في إقناعه بعد أن أكد له أنها لن تغني سوى الأغاني الوطنية، فوافق الأب مشترطا أن يرافقها أخوها "جوزيف" في أثناء دراستها في المعهد الوطني للموسيقى والذي كان يرأسه "وديع صبرة" مؤلف الموسيقى الوطنية اللبنانية، والذي رفض تقاضي أية مصروفات من كل التلاميذ الذين أتوا مع "فليفل".انضمت فيروز إلى فرقة الإذاعة الوطنية اللبنانية بعد دخولها المعهد بشهور قليلة، وتتذكر –في أحد أحاديثها النادرة– تلك الأيام فتقول (كانت أمنيتي أن أغني في الإذاعة، وقد أخبروني أنني سوف أتقاضى مبلغ 100 ليرة (21 دولارًا) في الشهر. كانت فرحتي لا توصف، لكن في نهاية الشهر لم أكن محظوظة كفاية، بسبب خصم الضريبة).أما اسم شهرتها فقد اختارته "نهاد حداد" لنفسها حين قابلت الملحن الكبير "حليم الرومي" والد المطربة "ماجدة الرومي" والذي كان أول من لحن لها، حيث غنت أولى أغنياتها الخاصة بها وهي "تركت قلبي وطاوعت حبك" من كلمات "ميشيل عوض"، وهنا خيرها "حليم" بين أحد اسمي شهرة، كان ثانيهما "شهرزاد".وفي العام 1951 غنت فيروز "لحليم الرومي"، وكذلك "لمدحت عاصم" و"سليم الحلو "و"محمد محسن"، وكان الرومي قد قدم "فيروز" للأخوين "عاصي ومنصور الرحباني" قبل ذلك بقليل.وكان أول لقاءاتها مع الجمهور في صيف عام 1957، في حفلة أقيمت في معبد "جوبيتر" الروماني في بعلبك وغنت أغنيتها (لبنان يا أخضر يا حلو).مع الرحبـانيةزفاف فيروز على عاصي رحباني
وقد بدأ عاصي -الذي سبق أخاه في الانجذاب إلى صوت فيروز- في التلحين لها فجاءت أغنيات من نوع "نحنا والقمر جيران"، هذا إلى جانب الأغاني الشعبية اللبنانية مثل "البنت الشلبية".والجدير بالذكر أن بداية "فيروز" مع "عاصي" كانت بأغان أوربية الألحان عربية الكلمات، ثم أصبح لهما السمت الخاص، ومن هنا جاءت بداية (فيروز والرحبانية)، أما رحلة (الفنانة الكبيرة) "فيروز" فقد بدأت مع أغنيتها "عتاب"، وكان ذلك عام 1952."فيروز" التي لم تكن تتوقع كل هذه الشهرة كمطربة. كان حلمها الحقيقي أن تصبح معلمة. كما أنها كثيراً ما صرحت في مناسبات عديدة بأنها لن تتزوج في حياتها أبداً، إلا أنها قد تزوجت من "عاصي الرحباني" في يناير عام 1955، وفي ذلك العام أيضا أرسلت إذاعة "صوت العرب" التي تنطلق من القاهرة الإذاعي الكبير "أحمد سعيد" ليتفق مع الثلاثي "فيروز وعاصي ومنصور" على الغناء في الإذاعة المصرية، وجاءت فيروز إلى مصر، ومما لا يعلمه الكثيرون أنها شكلت ثنائيا غنائيا مع المطرب المصري "كارم محمود"، وفي القاهرة أيضا جاءت أهم أعمالها في تلك الفترة، وهي قصيدة (راجعون)، ثم يعود الجميع إلى "بيروت" وتنجب السيدة فيروز ابنها الأول "زياد" 1956 الذي سيلحن لها فيما بعد أغاني عديدة مثل ألبوم "وحدن" عام 1981، وللسيدة فيروز ثلاثة أبناء آخرون هم ابنها "هالي" 1958 وابنتها "ليال" 1960، أما الصغرى فهي "ريما" 1965 وإلى جانب "الأخوين رحباني" غنت "فيروز" لملحنين آخرين مثل "فيلمون وهبي"، و"محمد عبد الوهاب"، و"إلياس الرحباني"، وقد غنت فيروز أكثر من 800 أغنية، أما قائمة شعرائها فتضم: نزار قباني، عمر أبو ريشة الأخطل الصغير، ميشيل طراد، قبلان مكرزل، سعيد عقل، بدوي الجبل، أبو سلمى، أسعد سابا، جوزيف حرب، طلال حيدر وآخرين كما غنت كذلك بعض قصائد "جبران"، هذا إلى جانب شعراء قدامى مثل "عنترة" الذي غنت بعض أبياته خلال غنائها للموشحات الأندلسية.في عام 1971، ذهبت مع الفرقة في رحلة إلى الولايات المتحدة، والتي بدأت معها شهرتها الدولية فغنت بعد ذلك في أشهر المسارح العالمية، مثل "رويال ألبرت هول" في لندن و"كارنيغي هول" في نيويورك، و"أولمبيا" في باريس.ويذكر أنه عندما حان وقت العودة من لوس أنجلوس إلى لبنان، تعمدت التخلف عن الرحلة وذلك لشراء كرسي كهربائي لابنها المقعد "هالي"، كما أن الطفلة "ريما" في فيلم (بنت الحارس) هي نفسها "ريما " ابنة "فيروز"
وعندما أصيب "عاصي" بالنزيف في الدماغ، كانت السيدة "فيروز" نزيلة ذات المستشفى، ولما علمت بالخبر نزلت إليه ومعها كتابان وضعتهما تحت مخدته، الإنجيل والقرآن.ولكن علاقة "فيروز" "بالأخوين رحباني" بدأت في الاهتزاز في أواخر السبعينيات حتى انقطع رباط العمل فيما بينهم، ولكنها استمرت تغني أغانيهم وأضافت ألحان "زياد" المتأثر بموسيقى الجاز. كما عملت مع "زكي ناصيف" وجددت العمل مع "محمد محسن". مسرحيات وحفلات وجوائز
وقد قدمت "فيروز" خمس عشرة مسرحية هي:
(جسر القمر، الليل والقناديل، بياع الخواتم، أيام فخر الدين، هالة والملك، الشخص، جبال الصوان، يعيش يعيش، صح النوم، ناس من ورق، ناطورة المفاتيح، المحطة، لولو، ميس الريم، بترا).
أما حفلاتها فقد تجاوزت الخمسين منذ أيام الحصاد 1957 وحتى دبي 2002، متنقلة بين كافة أرجاء المعمورة وفي 1993 تبكي "فيروز" لأول مرة وهي تغني (لا تخافي، سالم غفيان مش بردان).
وقد قال مراسل "البي بي سي" عن حفلة "فيروز" عام 1986 أنها "اديت بياف" العالم العربي (المغنية "اديت بياف".. شهرتها في فرنسا توازي شهرة "أم كلثوم" لدينا) لقد حطمت نتائج مبيعات التذاكر التي حققها "فرانك سيناترا". ووصلت سعر التذكرة في السوق السوداء إلى حوالي 1000 جنيه إسترليني.
في عام 1988 وفي فرنسا أحيت "فيروز" أكبر حفلة يقيمها مغن عربي في الخارج، حيث حضر نحو 15 ألف متفرج.
أما في إبريل 2002، فتحيي "فيروز" حفلة في دبي هدية للشعب الفلسطيني وذلك على ضوء الأحداث الأخيرة في الضفة الغربية قد حصلت السيدة "فيروز" على العديد من الأوسمة والجوائز منها وسام الاستحقاق اللبناني1957 من الرئيس "كميل شمعون"، وهو أعلى وسام في الدولة يناله فنان، وسام الأرز.. رتبة فارس من لبنان 1962، وسام الاستحقاق اللبناني، ميدالية الكرامة التي قدمها لها الملك "حسين" 1963، وسام الاستحقاق السوري 1967، وفي عام 1975 تم إصدار طوابع بريدية تذكارية عليها صورة السيدة "فيروز"، كذلك وسام النهضة الأردني من الدرجة الأولى، ووسام الكوموندور الفرنسي 1988، جائزة القدس في فلسطين 1997، وسام الثقافة الرفيعة - تونس. وفي عام 1997 حصلت "فيروز" على ميدالية الفنون للمرة الثانية من فرنسا، 1998 ميدالية الإسهام الاستثنائي من الدرجة الأولى، وكانت تلك آخر ميدالية يقدمها الملك "حسين" قبيل رحيله.
مواقف غريبة
تعرضت فيروز لعدة مواقف غريبة وقاسية منها منع أغانيها من البث لمدة سبعة أشهر في لبنان؛ وذلك لرفضها الغناء للرئيس الجزائري "هواري بو مدين" الذي كان يزور لبنان.
وفي الثمانينيات بدأت الحرب الأهلية اللبنانية، لكن السيدة "فيروز" قررت البقاء في بيروت - حتى بعد أن دمر أحد الصواريخ منزلها -وقد تعمدت "فيروز" ألا تغني في سنوات الحرب حتى لا يعد هذا انحيازا إلى أي حزب، وبعد أن انتهت الحرب، أقامت حفلة في ساحة الشهداء عام 1994.