ا- ثورة الإسلام والثورة المضادة
لا يمكن للإنسان أن يعيش بلا عقيدة سامية، فالعقيدة من مقومات انسانيته، والحضارة في كل عصر منبعها الأول الدين . والأديان جميعهـا سلسلة مترابطة الحلقات تد فع البشرية إلى الحضارة والمثل العليا. وتطور الديانات يلازم التطور البشري . والعاطفة الإجتماعية والإنسانية هي العنصر الدائم في الشعور الديني . فالأديان تنشد تكوين مجتمع انساني متحضر، يعمل على التقدم والتطور وتوفر الرخاء والسعادة.
والإسلام ثورة عظمى، غيّرت مجرى تاريخ البشرية، وبدلت نظام الحياة، وسمت بالإنسانية التي كان يهوى بها الجهل والفاقة والاستبداد، وارتفعت بكرامة الفرد والمجتمع، ووأدت المبادىء الضالة الضارة، في العقيدة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والفكر، وبعثت شعورأ جديدأ في أرجاء العالم، يقوم على إيمان عميق وطيد بمبادىء الحق والحرية والعدالة والمساواة والأخوة العامة والزمالة الإنسانية .
الحركات الاصلاحية في بلاد العرب قبل الاسلام:
كان العرب في الجزيرة العربية قبل الإسلام يتحدثون باللغة العربية ، ولكن لم تتحقق الوحدة العربية، ولم ينجح العرب في تكوين دولة أو وحدة سياسية تجمع العناصر العربية في هذه الجزيرة. وعملت طبيعة بلاد العرب بما فيها صحارى قاحلة، وجبال وعرة وأودية عميقة، على تباعد العرب وتفرقهم، وأدت إلى صعوبة الاتصال والامتزاج، مما أدّى إلى اختلاف اللهجات، حتى أصبحت بعض هذه اللهجات وكأنها لغات بعيدة عن أصلها العربي. وساعدت الأمية، وكانت واسعة الانتشار، على إهمال اللغة العربيه أحيانا.
أما وقد أصبحت اللغة العربية وحدها لا تستطيع أن توحد العرب وتجمعهم تحت راية واحدة، فكان لا بد من أساس آخر تقوم عليه الوحدة العربية، ألا وهو الدين . وكانت الحياة الدينية في بلاد العرب قبل الإسلام تتصف بالفوضى لتعدد الأديان والمذاهب. وكان البدو يؤدون الطقوس الدينية لمعبوداتهم تحت تأثير التقاليد الموروثة في قبائلهم دون ان يعرفوا حقيقتها، كما أنهم كانوا قليلي الإهتمام بأمور دينهم ، وليس هناك ما يدل على وجود شعور ديني عميق لديهم.
ظهرت في بلاد العرب ، قبل ظهور الإسلام ، ثلاث حركات للإصلاح ، حاولت أن تجمع العرب حول دين واحد ، وتقضي على هذه الإختلافات الدينية ، ولكن هذه الحركات الإصلاحية الثلاث كان مصيرها الإخفاق، وعادت بلاد العرب إلى الفوضى الدينية التي لم ينقذها منها سوى الإسلام.
كانت أولى حركات الإصلاح: اليهودية، فقد انتشرت اليهودية في بعض مدن الحجاز واليمن، ولكنها لم تنتشر انتشارآ واسعآ، فقدكان اليهود ينادون بنظرية تفرقة عنصرية، إذ يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأن غيرهم من العرب غير جدير باعتناق دينهم اليهودي، ولذا لم يهتم اليهود بالتبشير بدينهم ، كما ارتبطوا بالسياسة الفارسية الإستعمارية في الجزيرة العربية، فنظر العرب إليهم على أنهم عملاء سياسيون للفرس . كما احتكر اليهود الموارد الاقتصادية في الجزيرة العربية وأبدوا جشعاً وطمعآ مما جعلهم موضع كراهية من العرب.
تلت هذه الموجة، موجة أخرى من الإصلاح فقد أخذت الإرساليات المسيحية تتدفق على بلاد العرب في القرن الثالث الميلادي ، واستوطنت نجران ببلاد اليمن، وكان يعزز نشاطها الدولتان المسيحيتان الكبيرتان ، الدولة الرومانية ومملكة الحبشة. ولكن المسيحية ظلت قاصرة على مدينة نجران ولم تنتشر في الجزيرة العربية. ولم يقبل العرب على المسيحية لأنها ارتبطت في أذهانهم بالنفوذ السياسي الإستعماري، الروماني والحبشي، فقد اسقط الأحباش الدولة الحميرية العربية باليمن، وبدأ استعمار حبشي لبلاد اليمن، ثم حاول الأحباش غزو مكة وهدم الكعبة مما أثار مشاعر العرب.
أما الحركة الإصلاحية الثالثة ، فكانت حركة داخلية ، عندما ظهرت قبل الإسلام مدرسة جديدة ذات عقيدة تدعى الحنيفية. فقد كان بين العرب أناس مستنيرون فطنوا الى سوء حالتهم الدينية، وحاولوا الإرتقاء من الوثنية إلى اعتقادات أرقى منها ، ودعا بعضهم إلى احياء دين التوحيد الذي دعا اليه إبراهيم ، وإلى نبذ الوثنية ورذائل الجاهلية، وكانوا يعتقدون بالبعث وبوجود إله واحد يحاسب ويجازي الناس على اعمالهم من خير وشر. ويطلق على هذه النزعة التحنف، وعلى أصحابها الحنفاء.
كافح الحنفاء من أجل القضاء على الوثنية ورذائل الجاهلية ، ولكن جهودهم لم تنجح في التخلص من الماضي ، والقضاء على التقاليد المتوارثة عن الآباء والأجداد ، وكانت حركة الحنيفية تفتقر إلى سند دنيوي يظاهرها وترتكز عليه (1).
نظر هؤلاء الحنفاء إلى الحياة نظرة أكثر سموّآ، ولكن لم يكن لهم من القوى المادية ومن السلطة السياسية ما يمكنهم من أن يصارعوا التعاليم والعادات القديمة، والطقوس الدينية والشعائر المقدسة التي كانت قد تشابكت مع حياة العرب ، ولا يمكن القضاء عليها إلا بهدم المجتمع العربى من أساسه ، وهذا ما نجح الإسلام فيما بعد في تحقيقه، إذ خلق مجتمعأ إسلاميا نقياً متماسكأ.
وإذا كانت جهود الحنفاء لم يكتب لها النجاح التام، فإنها قد فتحت آفاقأ جديدة من التفكير، ونجد آثار ذلك واضحة في ظهور عقيدة توحيد الله ، ويقظة الضمير، والشعور بالمسئولية، وصحب ذلك ظهور بعض المشاعر الإنسانية صورها الشعراء في القرن السادس الميلادى في شعرهم.
روح الثورة الإسلامية:
كان الإسلام ثورة ضد الجمود والعصبية والتفرقة العنصرية والاحتكار والاستغلال، وضد الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ورسم الإسلام الطريق أمام البشر ليعيشوا في سلام ورخاء وتعاون وأخاء وحرية ومساواة، ومنحهم مثلا عليا ونظمأ راقية في السياسة والاجتماع والفكر و الاقتصاد.
ينص الإسلام على أنه لا إكراه في الدين ، فالإسلام يؤيد ما قبله من الكتب السماوية، ويحث الناس على الحسنى وعلى التعايش السلمي مع غيرهم من أصحاب الديانات السماوية. ولا ينال الإسلام من عقيدة الآخرين ، بل يأمر باحترامها. والإسلام دين يتجاوب مع أرفع النظم وخير التقاليد، ويعمل لخير الإنسانية جمعاء، وقد وسعت رحابه الملل والنحل المتباينة، فعاشت تحت ظله في سلام. ووصف المؤرخ العربى المسيحي المعاصر الدكتور (فيليب حتى) الإسلام بأنه حضارة عامة شاملة تنتظم كل من يعيش تحت سمائها في حرية وصفاء، ويعيش غير المسلمين مع المسلمين على قدم المساواة وتربطهم الروابط المحبة والأخوة.
والإسلام يعمل على علاج المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم، إذ أنه نظام مؤسس على قواعد اجتماعية وعمرانية لا نظير لها في أي مذهب دنيوي من المذاهب الحديثة. والدين الإسلامي هو آخر الأديان السماوية ، ولذا كانت تعاليمه ونصوصه تجمع بين البساطة والتعمق، وهي تتمشى مع تطور حياة المجتمع، وهي تستطيع أن تحكم معاملات الناس فيما بينهم مهما تطورت وتنوعت هـذه المعاملات.
ويحدد الإسلام الأهداف العليا ويضع القواعد الأساسية ويتناول المسائل الكلية، ويدع الجزئيات لتطور الأحداث الاجتماعية وظروف الزمان والمكان، تتسع باتساع مدارك الناس، وترتقى بارتقاء الحضارة و المدنية.
والإسلام يتفق مع التطور الإنساني والتقدم البشري، فهو يعمل على جمع شمل الإنسانية وتقاربها وتآلفها وتعاونها، والإسلام لا يتعارض مطلقأ مع العقل أو المنطق أو مقتضيات الحياة، وهو يعمل لتحقيق مصالح الناس حتى يتمتعوا بالمميزات الإنسانية التي تحقق سعادتهم وقوتهم، وهو يحتفل بحياة الإنسان الدنيوية، ويساعده على الحياة الكريمة.
ويأمر الإسلام بتطهير القلوب وتهذيب النفوس، لأن القلوب الطاهرة العامرة بالإيمان والنفوس الصافية المهذبة بالمعاني السامية هي التي تدفع أصحابها إلى تهذيب عقولهم، كما تدفعهم إلى الحضارة والتقدم والتطور.
اعترف الإسلام للإنسان بحريته واستقلاله الفكري والاجتماعي، فرفع بذلك من كرامة الإنسان ومعنويته، وهيأه للمزيد من الحضارة والمدنية. وحارب الإسلام العصبيات التي تفضل جنساً على جنس، أو جماعة على جماعة. فالعصبية تدعو الى الصراع الإجتماعي وتفرق بين النامى وقد جمعهم أصل واحد. ونادى الإسلام بالحرية والإخاء والمساواة، ورسم وسائل تحقيقها، وأقام موازين الحق والعدل والإنصاف ، ودعا إلى التعاون والبر والخير والصلاح، كل ذلك في ظل المحبة والسلام.
الإسلام ثورة اجتماعية
كان من أهم أهداف الإسلام محو البداوة بين العرب ، وإقامة حضارة اجتماعية جديدة خالية من رذائل الجاهلية، ومن فساد المجتمعين الفارسي والروماني، فترتفع رايات الحضارة الإسلامية الزاهرة، وتتحقق المساواة بين الشعوب والأفراد.
كفلت الشريعة الإسلامية تحقيق العدالة الإجتماعية للأفراد والجماعات، فقد اعتبرت الفرد قوامأ للجماعة وسنّت له النظم الصالحة لحياته في نفسه وباعتباره عضوأ في أسرته، وفي عشيرته ، وفي أمته، وفي المجتمع الإنساني.. كما اعتبر الإسلام الجماعة عضدأ للفرد وظهيرأ له في اداء رسالته والتمتع بحقوقه والقيام بواجباته ، ووثق الصلة بين الفرد والجماعة بالتكافل في كثير من الحقوق والواجبات.
فرض الإسلام الزكاة ، وجعلها ركنأ من أركان الدين ، تؤخذ من الأغنياء وترد إلى الفقراء، وأمر الإسلام بالبر والإحسان لذوي القربى واليتامى والمساكين والجار وابن السبيل، وحث على الصدقة. كما حث على العمل والكسب وزيادة الانتاج، ونهى عن البطالة والتواكل.
كان الإسلام ثورة اجتماعية عظمى، إذ قضى على روح الفردية وخلق روح الجماعة، وقضى على الاستبداد الاجتماعي والمادي، ودعا إلى العدل والحرية والمساواة. وحطم الحواجز القبلية وجعل هذه القبائل تذوب في البوتقة الاسلامية وأخرج منها مجتمعأ واحدآ متماسكأ.
تحدث جعفر بن أبي طالب إلى نجاشي الحبشة ، وقد أرسلت قريش وفدآ لتحريضه على اخراج المهاجرين المسلمين من مملكته، يصف ما غيّر من أحوالهم، فقال: " أيها الملك، كنا قومأ أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسىء الجوار،
ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله الينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا ان نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام " (2)
وازن كل من (جولدتسيهر) و (ارنولد) بين المثل العليا في الجاهلية والإسلام. فقال جولدتسيهر (3): إن الشجاعة الفردية، والكرم العظيم، والبذخ والإسراف في تكريم الضيف والإنتصار لذوي القربى والأخذ بالثأر بلا شفقة أو رحمة إذا وقع اعتداء على شخصه أو عشيرته، كانت أبرز فضائل الجاهلية. أما في الإسلام، فنجد الصبر والاحتمال، وتفضيل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، شخصية كانت أو قبلية. كما نجد عدم الاكتراث بالأمور الدنيوية والأعراض الزائلة، وتجنب الرياء والفخر. وكانت هذه الفضائل كفيلة بأن تدفع المسلمين على احتقار هذه المثل العليا للجاهلية.
وقال (أرنولد) (4) : " كانت المساواة بين المؤمنين في الإسلام وما ساد بينهم جميعأ من أخوة مشتركة، فكـرة عارضت في الصميم نعرة الشعور القبلي عند العربى الذي بنى احترامه الشخصي على شهرة أجداده ، وأخذ يقتدى بهم في إثارة النزاع الدامي الدائم الذي كان يلتمس فيه اللذة والسرور" .
وقد نظم محمد، المصلح الاجتماعي الأول، المجتمع وقرر الحقوق والواجبات ، واستمد من الشريعة الإسلامية روح قوانينه وتشريعاته. وكان وضع القوانين وتنفيذها يحتاجان إلى حكومة مسئولة، ولذا اهتم الرسول عليه الصلاة والسلام بانشاء حكومة عربية اسلامية وطيدة الأركان، وعوّد العرب الحياة في ظل الحكومة، والخضوع للقوانين، والمشاركة في المسئولية، في الشورى والديمقراطية.
أصبحت بلاد العرب بعد انتشار الاسلام تدين بعقيدة واحدة، وقد مهدت هذه الرابطة الدينية لقيام وحدة سياسية ووحدة اجتماعية ، وقامت الدولة العربية الإسلامية على أساس الوحدة الدينية . وقضى الإسلام على العصبية الجاهلية، فزال العداء بين القبائل، وقامت في بلاد العرب حكومة مركزية عزيزة الجانب، وأصبحت جميع القبائل ترى في الإسلام رمز وحدتها وشعار مجدها.
اهتم الإسلام بتنظيم المجتمع، فبدأ باصلاح الفرد، فدعاه إلى طهارة الجسم وصفاء الروح، ونبذ العادات الاجتماعية المرذولة. وفرض الإسلام عبادات تنهى عن المنكر والبغي، ودعا إلى التضامن الإجتماعي، والتعاون على البر والتقوى. وهذا الإصلاح الفردي متشابك مع التنظيم الاجتماعي.
وقد آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المسلمين، ونظام العلاقات داخل الأسرة باعتبارها الخلية الأولى للمجتمع. وحرر الإسلام المرأة من قيود الجاهلية وأعاد لها حقوقها المشروعة، ونظم الزواج والطلاق والمواريث وغيرها من العلاقات الاجتماعية التي أهملها المجتمع الجاهلي تمامأ .
تحدث المؤرخ (جوزيف هل) (5) عن أثر الإسلام في وحدة المجتمع فقال: ثم ان انتظام المؤمنين في الصلاة شجع روح الوحدة بين المسلمين، وخلق بينهم شعورآ بالمساواة التي كانت أفكارآ جديدة على سكان بلاد العرب، إذ كانت الوحدة حتى ذلك الوقت هي رابطة الدم، كما ان المظاهر الرسمية التي سادت حياة العرب إذ ذاك هي الإفتخار بالأسرة والحب والثراء، وامتهان شأن المعوز وعديم المال. ولذلك فإن محمدأ مهّد السبيل لوحدة بلاد العرب المتنافرة، عندما نجح في تدعيم الإتحاد الذي احتضن على السواء الغني والفقير على أساس المساواة. وعندما نجح كذلك في توجيه ضربة إلى العصبيّة القبلية والعائلية. واستهدف الإسلام منذ مبدأ امره تحقيق ذلك الغرض، وهو القضاء على العصبية القبلية والعائلية وتحطيمها. وإلى جانب الصلاة، كانت فكرة المساواة الاجتماعية تجديدأ تامأ أحدثه الإسلام، فأصبحت مساعدة الفقير والقيام بأمره واجبأ مقدسأ، ولم يعد من شأن الأفراد أن يعطوا كيفما شاءوا، وإنما غدت الزكاة فرضأ تجبى إلى بيت المال وينفق منها على الفقراء.
الثورة السياسية:
وكان الإسلام ثورة سياسية أيضأ، بل كان ظهور الإسلام هو ظهور الحياة السياسية القومية للعرب. فقد نجح الإسلام في أن يجمع القبائل العربية في صعيد واحد، وألف بين قلوبهم، وقضى على العصبية القبلية، فزالت الحزازات القديمة والثارات التي بين القبائل، فخضعوا لحكم الرسول وهدى القرآن الكريم، بعد أن كانوا يدينون لرؤساء متفرقين. وبذلك قامت في بلاد العرب حكومة مركزية قوية. ولم يكن هدف الدولة العربية الإسلامية سيادة شعب على شعب ، كما كانت أهداف الدولتين الفارسية والرومانية ، بل كان هدفها الدعوة الى توحيد الله، والحكم بالعدل بين الناس ونشر لواء الحضارة الزاهرة.
يصف ابن حزم (6) أثر الإسلام في تآخي العرب وتخلصهم من مفاسد الجاهلية، فيقول: " وكانت العرب بلا خلاف قومأ لقاحأ لا يملكهم أحد كربيعة ومضر وإياد وقضاعة، أو ملوكها في بلادهم يتوارثون الملك كابرأ عن كابر... فانقادوا كلهم لظهور الحق وآمنوا برسول الله، وهم آلاف آلاف وصاروا اخوة كبني أب أو أم ، وانحلّ كلّ من أمكنه الإنحلال عن ملكه إلى رسوله طوعأ بلا خوف غزو ولا إعطاء ولا يطمع في عزّ... بل كلهم أقوى جيشأ من جيشه، وأكثر مالا وسلاحآ منه، وأوسع بلدأ من بلده... وهكذا كان اسلام جميع العرب، أولهم كالأوس والخزرج، ثم سائرهم قبيلة قبيلة لما ثبت عندهم من آياته وبهرهم به من معجزات ".
وصف (فون كريمر) أثر الإسلام في توحيد العرب فقال: جمعت فكرة الدين المشترك تحت زعامة واحدة شتى القبائل في نظام سياسي واحد، ذلك النظام الذي سرت مزاياه في سرعة تبعث على الدهشة والإعجاب، وإن فكرة واحدة هي التي حققت هذه النتيجة ، تلك هي مبدأ الحياة القومية في جزيرة العرب الوثنية. وأصبح النظام القبلي شيئاً ثانويأ بالنسبة للشعور بالوحدة الدينية وتكللت المهمة الضخمة بالنجاح، فعندما انتقل محمد إلى جوار ربه ، كانت السكينة ترفرف كل أكبر جزء من شبه الجزيرة العربية بصورة لم تكن القبائل العربية تعرفها من قبل ، مع شدّة تعلقها بالتدمير وأخذ الثأر، وكان الدين الإسلامي هو الذي مهّد السبيل إلى هذا الائتلاف.
عمل الإسلام على جمع شمل العرب ، وأزال دوافع تفرقهم، وخلّص العرب من رذائل الجاهلية، ونشر بينهم روح العدالة والشورى والسلام، وأن أكرم الناس أتقاهم، وأعدّ العرب ليكونوا خير أمة صالحة ينشرون دينهم في أرجاء العالم.
نجح الرسول صلى الله عليه وسلم في تحقيق هدفين كبيرين: فقد وحد بين العرب وخلق منهم أمة واحدة ، ودولةعربية إسلامية قوية، ثم ساوى بين العرب وغيرهم من الأجناس ما داموا قد اعتنقوا الإسلام ، فجمع كلمتهم وصاروا يدآ واحدة على اختلاف أنسابهم ومواطنهم، وجمعهم تحت راية واحدة واسم واحد، هو الإسلام. (7).
كتب المؤرخ الألماني (فلهاوزن) (
بحثأ بعنوان " الجماعة السياسية نشأت من الجماعة الدينية "، جاء فيه: " أما الدولة من حيث هي نظام منفصل عن الجماعة ومستقل عنها في وظيفته، ومن حيث أن لهذا النظام سلطانأ يخضع له الناس، فلم يكن بعد قد وجد بين العرب، بل كانت الدولة عندهم هي الجماعة في جملتها، ولم تكن هيئة لها نظام خاص، ولاكانت لها أرض محدودة. فلم يكن هناك في الحقيقة دولة وإنما كانت هناك أمة. فلم يكن هناك نظام سياسي من صنع الإنسان ، بل كان هناك كيان إجتماعي طبيعي بالغ درجة النماء، لم يكن هناك موظفون يديرون شئون الجماعة بالمعنى الذي نعرفه في الدولة، وإنما كان هناك رؤساء العشائر والقبائل . ولم ير محمد أن رسالته هي أن يضم إلى دعوته أتباعآ متفرقين هنا وهناك. نعم كان لا بد أن يبدأ بضم أفراد ، لكنه كان يرمي إلى ضم الجماعة كلها. فكان يريد أن يجعل أمته العربية كلها جماعة دينية. "
ثم تحدث (فلهاوزن) (9) عن تحول الجماعة الدينية بعد هجرة الرسول إلى المدينة إلى جماعة سياسية، فقال: " أصبحت المدينة منذ الهجرة أمة واحدة وكلمة (الأمة) هنا ليست اسمآ للجماعة العربية القديمة التي تربطها رابطة النسب، بل هي تدل على الجماعة بالمعنى المطلق. وهي تدل في العادة على جماعة. تقوم على الدين، والإيمان هو رباط الإتحاد.
دعا الإسلام إلى اتحاد العرب وقيام دولة عربية إسلامية تجمعهم وتوحد كلمتهم، فقد أدى الإسلام إلى اضعاف القوة الرابطة للفكرة القبلية القديمة، تلك الفكرة التي أقامت بناء المجتمع العربي على أساس قرابة الدم. وكان إسلام العربي ودخوله في المجتمع الجديد هدمأ لأهم قوانين الحياة العربية الجاهلية ، فقد انحل النظام القبلي القديم وقامت حياة قومية وطيدة.
تحدث المؤرخ (توماس أرنولد) (10) عن أثر الإسلام في قيام الدولة العربية الإسلامية، فقال: "كان ظهور مبادىء الإسلام في بلاد العرب في القرن السابع الميلادي، على يد النبي العربي الذي انضوت تحت لوائه شتى القبائل العربية فأصبحت بذلك أمة واحدة. فلما تشبعوا بآثار هذه الحياة القومية الجديدة، ومن هذه الحماسة، وتلك الحمية التي أمدّت جنودهم بقوة لا تقهر، تدفقوا في أرجاء الأرض، يفتحون البلاد. "
كانت غاية الدولة الإسلامية كما بين الله تعالى في كتابه العزيز في عدة مواضع إقامة المآثر والمكارم التي يحبّ الله أن تتحلى بها الحياة البشرية. وقد دعا محمد صلى الله عليه وسلم إلى وحدة إنسانية ، وإلى محو جميع الفروق الطائفية والعنصرية التي فرقت بين الناس والجماعات .
الثورة الاقتصادية
كان الدين الإسلامي أيضآ ثورة اقتصادية عظيمة في القرن السابع الميلادي ، ولا يزال نظامآ اقتصادياً مثالياً، فقد عرف الإسلام الطبيعة البشرية فسايرها، وعرف الطبيعة الإنسانية الاجتماعية فكان عاملا فعالاً في تنظيمها، وعرف طبائع الفرد فرعاها ولم يكبتها، وعرف طبائع المجتمع فجعلها لصالح الفرد.
والإسلام يحل جميع مسائل الحياة ومشاكلها، ويتميز باتساع الأفق والمرونة ومجابهة الواقع ، وبادراك طبائع البشر، فهو دين الفطرة والتطور والخلود. والإسلام لا يقتصر على سن القوانين، بل يدعمها بالحث على مكارم الأخلاق وإصلاح الأفكار وتزكية النفوس، ليكون منها رقيب على مواصلة العمل بتلك القواعد، وبذلك يستأصل جذور الفساد في العالم.
وضع الإسلام القواعد الكلية والأسس العامة والأصول الجوهرية لأحكم شريعة عرفتها البشرية، وترك للمسلمين أن يفسّروها في كل عصر بوحي من إيمانهم وبروح عصرهم، ويبنوا عليها حسب مقتضيات الأحوال وظروف البيئة.
والإسلام يعمل على التوفيق بين الحياة الروحية والحياة المادية ، وتقوم التعاليم الإسلامية وحضارتها ونظمها على أساسين رئيسيين: أساس روحي أو عاطفي، وأساس عقلي أو منطقي. وبذلك تقوم الحضارة الإسلامية على أساس هو النقيض من أساس الحضارة الغربية، فهي تقوم على أساس روحي يدعو الإنسان إلى حسن إدراك صلته بالوجود ومكانه منه قبل كل شيء. فإذا بلغ هذا الإدراك حد الإيمان دعاه إيمانه إلى إدامة تهذيب نفسه وتطهير فؤاده وإلى تغذية قلبه وعقله بالمبادىء السامية ومبادىء الألفة والأخوة والمحبة والبر والتقوى. (11)
وقد جعل الاسلام العقل حكمة في كل شيء، وجعله حكماً في الدين والإيمان نفسه، فالنظم الإسلامية، اقتصادية أم اجتماعية، تستند إلى العقل.
ولا يضحى النظام الإسلامي بمصالح المجتمع الاقتصادية في سبيل الفرد، ولا ينظر إلى الفرد إلأ باعتباره اللبنة الطبيعية لبناء المجتمع السليم، وهناك مسئولية متبادلة، فالمجتمع مسئول عن سعادة الأفراد الذين يطلق لهم الإسلام حرية النشاط الاقتصادي، فلهم أن يجمعوا المال ولهم أن يستثمروه طالما كان جمع المال واستثماره من حلال وفي حلال ، فالمال الصالح قوام الحياة. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: " نعم المال الصالح للرجل الصالح ". فأما أن يكون مستغل المال سفيهاً لا يجيد التصرف ولا يحسن الاستثمار فلا حق له عندئذ فيما بين يديه من مال، والله تعالى يقول: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم { النساء : 5 } لأن بقاء المال في يد السفيه مضيعة لصالح المجموع، وهذا ما لا يرضاه الإسلام.
وفي الميدان الاقتصادي، ينظر الإسلام إلى صالح المجتمع وإلى صالح الفرد سواء بسواء. فإذا كان ثمة من تعارض بين المصلحتين فمصلحة المجتمع مقدمة لا جدال. والإقتصاد الإسلامي يهدف إلى تنظيم العلاقات بين الفرد والمجتمع على قسطاس مستقيم، ويجمع بينهما على أساس التعادل والتكامل ، بحيث تبقى حقوق الفرد وحريته مصونة ولا تضّر بالمجتمع، بل تكون نافعة لمصالحه وتقدمه. وكما أن الإسلام يكره النظم التي تقيد حرية الفرد، فهو لا ينظر بعين الاستحسان إلى ذلك النظام الاجتماعي الذي يطلق العنان لأفراد المجتمع في الدوائر الاجتماعية والاقتصادية ويترك حبلهم على غاربهم يفعلون ما يشاؤون مما يضر بمصلحة الجماعة.
واختار الاسلام طريقآ وسطآ بين هذين الجانبين المتناقضين- جانب الأفراط والتفريط- فهو يقيد الفرد أولا بجملة من الحدود والتكاليف حفظأ لمصلحة الجماعة، ثم يخلي بينه وبين شئونه الفردية يعالج كيف ما شاء في ضمن هذه الحدود (12).
يهدف الإسلام إلى أن لا يبقى في المجتمع البشري حواجز وعقبات قانونية أو تقليدية تعوق الإنسان وتقعده عن بذل جهده واستطاعته في سبيل اكتساب الرزق حسب ما أولاه الله من القوى والمواهب، كما يريد أن تنعدم عنه الامتيازات والفوارق التي تضمن لبعض الطبقات أو السلالات أو البيوتات سعادتها المتوارثة وتحوطها بسياج من التحفظ القانوني، فهذان الطريقان يحوّلان التباين الفطري والفوارق الطبيعية قهرآ إلى تباين وفروع غير فطرية.
أقر الإسلام في المسائل الاقتصادية للحياة الإنسانية جميع الأصول الفطرية التي قام عليها صرح اقتصادي انساني. والإسلام في نظامه هذا لا يعارض إلا البذور غير الطبيعية التي تسرّبت إلى حقل الشئون الاقتصادية.
فرض الإسلام الزكاة وأمر أن تنفق في مساعدة الفقراء واليتامى والمعوزين وذوي الحاجة. وهذا تأمين اجتماعي يوفر لكل فرد في المجتمع الإسلامي ضرورات الحياة، وبذلك لا تنحط قوة فرد من أفراد المجتمع عن ذلك المستوى الذي لا بد منه للمساهمة في الكفاح الاقتصادي.
ثورة قريش المضادة:
كان الإسلام- كما رأينا- ثورة في ميادين السياسة والاجتماع والاقتصاد والفكر. وقد قامت عند أول ظهور الإسلام ثورات مضادة ، حمل لواءها أصحاب المصالح التي ظنوا أن الإسلام يهدد مصالحهـم. وحملت قريش في مكة واليهود في يثرب لواء هذه الثورة المضادة .
أبدت قريش عداءها للإسلام منذ اللحظة. الأولى لظهوره ، رغم انتماء الرسول عليه الصلاة والسلام إلى هذه القبيلة. وكانت قريش في هذا العداء إنما تحمي مصالحها الشخصية ونفوذها السياسي والديني ومكاسبها الاقتصادية. كانت قريش قبل ظهور الإسلام قد نجحت في أن تجعل نفسها فوق جميع القبائل العربية. وأقامت قريش نوعأ من الحكومة الجمهورية في مكة، وأصبحت صاحبة النفوذ السياسي والديني والاقتصادي في مكة. بل أصبح لقريش صبغة دولية، إذ كانت تربطها معاهدات سياسية واقتصادية بالدول الكبرى في العالم القديم. وكان توقيع هذه الدول لهذه المعاهدات. هو بمثابة اعتراف الدول بقريش كوحدة سياسية لها كيانها وقوامها وإقتصادها.
كونت قريش جمهورية صغيرة تولاها أكفأ أبنائها، وكانت قريش تشجع العرب على الحج إلى الكعبة، واتخذت جزءآ من الأرض المجاورة للكعبة أولته احترامها واعتبرته حرمآ مقدساً حرمت فيه القتال، وكان لمكة مركز خاص لوجود الكعبة بها ، كما أصبحت قريش محترمة في نظر القبائل العربية.
تولت قريش سدانة الكعبة والاشراف على الحج، ومنحتها هذه السيادة الروحية نفوذأ. سياسياً كبيرآ، فقد أصبحت أكثر القبائل العربية قوة ومهابة ، كما رحلت قوافلها في سلام فلم تتعرض لما كانت تتعرض له سائر القوافل من اعتداء وسطو.
مارست قريش نشاطأ تجاريأ على نطاق واسع، فكانت لها رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، وأصبح القرشيون وسطاء تجاريين بين إقليم البحر المتوسط المعروف بغلاته المتميزة وبين ذلك الاقليم الموسمى في جنوب الجزيرة العربية الذي يشتهر بغلات كان العالم القديم يحتاج إليها، مثل التوابل والبخور. وحاز القرشيون ثروات كبيرة، وعاشوا حياة ترف ورفاهية ، يسكن كثير منهم قصورآ فخمة ، ويأكلون في الأواني الذهبية والفضية، ويقف الشعراء على أبوابهم. وكانت منازل قريش تقدر بالذهب ، وامتلكوا الجياد الكريمة وتفاخروا بعددها ونسبها. وانصرف كثير من أثرياء قريش إلى اللهو والمجون والملذات.
أصبحت قريش قبيلة أرستقراطية تضع نفسها فوق سائر القبائل العربية ، ولذا وقفت من الإسلام والرسول موقفة عدائيأ، دفاعأ عن أرستقراطيتها ، وثرائها ونفوذها وشخصيتها. ولو قصر الرسول عليه الصلاة والسلام دعوته على تطهير النفس و إصلاح الأخلاق لما أثارت دعوته شيئاً من المقاومة أو المعارضة التي لقيها. ولكن جهره بالدعوة إلى وحدانية الله، والدعوة إلى نبذ عبادة الأوثان ، جعل قريشأ تؤمن بأن انتصار الدين الجديد معناه تحطيم دين العرب الموروث، أو " العبادة القومية " (13) ، وضياع ما كان يتمتع به سدنة الكعبة المقدسة من ثروة ونفوذ.
كان الاسلام يهدم الوثنية تماماً ، بينما كانت هذه الوثنية تدرعلى قريش دخلا كبيرآ ثابتأ، فقد نصبت قريش حول الكعبة أصنام جميع القبائل الضاربة في الصحراء العربية، لتشجعها الحج الى الكعبة، وتقديم القرابين والهدى والنذور إليها، ولتجذبها إلى ارتياد الأسواق التي تفقدها قريش والتي تعود عليها بفوائد مادية عظيمة.
وإذا انهارت الوثنية ، وانتهى اشراف قريش على الكعبة وأوثانها، ضاعت هيبة قريش ونفوذها السياسي، وتعرضت قوافلها للخطر كسائر تجارات القبائل الأخرى، بعد أن كانت في أمان لا يعتدي عليها أحد لئلا يعرض نفسه لنقمة الآلهة وغضبها.
دعا الإسلام إلى المساواة ، بينما قريش تدين بنظام الطبقات، وتتبع أنظمة أرستقراطية ورأسمالية ، وكان القرشيون يأنفون معاشرة سائر العرب من أبناء القبائل الأخرى. وكان الإسلام يدعو إلى أكرم السجايا وأفضل الأخلاق، بينما كان زعماء قريش يعتزون بشرب الخمر وارتكابهم المحرمات.
كان البيت الأموي قبل الإسلام يمثل أرستقراطية قريش خير تمثيل، وكان يمارس نشاطأ اقتصاديآ واسعآ، ويمتلك القوافل الحافلة التي يزيد عدد ابل احدى قوافلها عن ألف بعير تحمل أنواعأ عديدة من الانتاج العالمي، وكان أشراف بني أمية قد حازوا ثراء عظيماً وعاشوا في نعيم مقيم.. ولذا كمل حمل البيت الأموي لواء المعارضة ضد الإسلام والرسول، وتقدم زعيم الأمويين أبو سفيان بن حرب جيوش قريش التي حاربت الرسول والمسلمين.
ثورة اليهود المضادة:
كما قادت قريش ثورة مضادة للإسلام، تزعم اليهود ثورة مضادة أخرى. فقد كوّن اليهود في الجزيرة العربية أرستقراطية دينية واقتصادية وسياسية، خشوا عليها بعد ظهور الإسلام وانتشاره. وكان اليهود قبل الإسلام قد احتلوا أخصب بقاع الحجاز، واستغلوها في الزراعة والصناعة والتجارة، واحتكروا الموارد الاقتصادية في يثرب (المدينة المنورة)، وأنشأوا مصانع للأسلحة يبيعونها لسائر القبائل ليستخدموها في الحروب القبلية الدامية. ولما قدمت قبيلتا الأوس والخزرج من اليمن، سمح اليهود لهم بالإقامة في يثرب ، ليتخذوا من أبناء القبيلتين يدآ عاملة في اقطاعياتهم الزراعية. ولكن عرب الأوس والخزرج سرعان ما تحرروا من تسلط اليهود عليهم ، ومن نظم اليهود الإقطاعية، واستقلوا عنهم اقتصاديأ، مما أدى إلى الصراع بين عرب القبيلتين واليهود.
لم يهتم اليهود- قديماً وحديثأ- بالتبشير بدينهم، فهم يزعون أنهم شعب الله المختار، وأن سائر الشعوب غير جديرة بالدخول فيما دخلوا فيه، ولذا وضعوا العراقيل أمام كل من يريد أن يتهوّد. وأصبحت اليهودية هي خلاصة القانون التلمودي بعقائده وتقاليده وطقوسه. وهكذا صمم اليهود على أن يبعدوا عن اليهودية كل من أراد أن يعتنقها، إلا اذا توافرت فيه جميع شروط التوراة والتلمود وخضع لكل نظمها.
بدأ العداء بين اليهود والمسلمين منذ هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واتخذها مركزآ لنشر دعوته، فقد رأوا في محمد وفي دينه منافسا جديدآ يوشك أن يقضي على نفوذهم، وأن ينتزع منهم لواء الزعامة التي يريدونها في المدينة. وكان الرسول الكريم من صميم العرب ، ومن أكرم بيوتات قريش ، فهو لذلك أقرب إلى نفوس العرب الذين يبغضون اليهود. ويضيقون ذرعأ بافتخارهم عليهم بالعلم وكتب بني إسرائيل. ولذلك كان أهل المدينة أسرع إلى قبول دعوة الرسول ، والإنضواء تحت لواء ذلك النبي العربي الكريم، الذي كان اليهود يظنون أنه سيظهر من بينهـم فيملكون به أعنة العرب.
صار اليهود في عداوة مع الرسول على غير هدى ، وأخذوا يصرّحون بالشك في رسالته، لا لشيء سوى أنه عربي ، والنبوة في رأيهم مقصورة ، على بني اسرائيل ، ولأنه أيضاً بعث في الحجاز، والنبوة في رأيهم إنما تكون في الشام موطن الأنبياء.
لما رأى اليهود ازدياد عدد المسلمين وانتشار الإسلام يومأ بعد يوم، وأن العرب يقبلون على اعتناق الإسلام. ومبايعة الرسول، وأن جميع مصالح اليهود القائمة على أرستقراطية دينية فرضوها على العرب بقولهم إنهم شعب الله المختار وأبناء الله وأحباؤه، أصبحت مهددة باستقرار الأمر لهؤلاء العرب المسلمين لما رأوا ذلك أيقنوا ألا سبيل للمحافظة على هذه المصالح وضمان اطمئنانهم في الجزيرة العربية إلا بالخلاص من الرسول والمسلمين.
ظهرت ثورة اليهود المضادة في كثير من الصور، بعضها سلبي وبعضها إيجابي. أما الصور السلبية، فقد بدت في بث اليهود بذور العداء والخصام
بين صفوف المسلمين في المدينة، فكانوا يثيرون البغضاء والأحقاد بين المهاجرين والأنصار، ويوقعون بين فريق الأنصار الأوس والخزرج، فيذكرونهم بما كان بين القبيلتين من معارك قبل هجرة الرسول . كما أعلن اليهود تأييدهم لقريش وحرضوها على قتال الرسول . وقام شعراء اليهود يرثون قتلى قريش في غزوة بدر. وكان اليهود إذا سئلوا عن شيء مما في كتبهم حرفوا الكلم عن مواضعه ، وألبسوا الحق بالباطل ، لينالوا رضاء المشركين بالكيد للإسلام، لا لسبب سوى كراهيتهم للرسول لما اختصه الله عز وجل به من الرسالة.
ثم بدأت إيجابية ثورة اليهود المضادة ، إذ شن اليهود حربأ شعواء على المسلمين ، وحزّبوا الأحزاب عليهم ، ثم أقدموا على محاولة اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام، وحرضوا الوثنيين على قتال الرسول والمسلمين. فرأى الرسول والمسلمون أن يدفعوا عن أنفسهم كيد اليهود ، واضطر الرسول إلى مقاومة اليهود ومحاربتهم، لأن فرديتهم كانت تعارض انسانيته الواسعة كما كانت هذه الفردية تقف حائلا أمام الوحدة الاسلامية العربية.
لم يكن اليهود في الحجاز صفاً واحدأ إلا في ثورتهم المضادة للإسلام ، ولكنهم لم ينجحوا في تكوين جبهة سياسية واحدة ، بل عاشوا في ظل القبيلة المستقلة . ولذا حاصر الرسول اليهود، قبيلة بعد قبيلة ، وأجلاهم جميعأ عن المدينة ، حتى إذا تجمعوا في خيبر وعاودوا كيدهم ودسائسهم ، خرج الرسول إليهم وأخمد ثورتهم المضادة تمامأ.
ثم تفرغ الرسول والمسلمون للقضاء على ثورة قريش المضادة، فكان فتح مكة، حيث أعلنت قريش استسلامها وخضوعها لدين الحق ، ودالت دولة الآصنام وارتفعت رايات الإسلام، وسقط النظام الأرستقراطي الطبقي الذي أقامته قريش دهرأ في مكة خاصة وبلاد الحجاز عامة، وأصبحت الجزيرة العربية كلها تدين بالاسلام وتؤمن بمبادئه السامية وتعاليمه الرشيدة، ونجحت ثورة الإسلام وأنارت العالم كله بأنوار الحق والهداية والحضارة الزاهرة.
***