عبقرية الرسول و مناقبه
إذا كان الرسول(ص) في عرف المسلمين سيد الرسل وإمام البشر فآراء المستشرقين والمفكرين الغربيين تتفاوت في تقويمه ، وطبيعي أن تتباين وجهات نظرهم فيه عليه أفضل الصلاة والسلام ، تبايناً قد يبلغ حد التناقض .
وطبيعي ، أن ترد أسباب الاختلاف في المواقف الاستشراقية إلى حالات الاستشراق ومناهجه الفكرية المتأرجحة بين الجحود والإنصاف ، الكره والمحبة ، السخرية والاحترام ، وذلك لما أدركه المستشرقون من العلاقة العضوية التي لا تنفصم بين الرسالة والرسول ، وارتكاز الإسلام كعقيدة وشريعة على القرآن ( كتاب الله ) والسنة - أحاديث الرسول وأقواله وأفعاله وتقريره . . .
فبعد أن فرض الإسلام نفسه عالمياً ، كان طبيعياً أن تستأثر سيرة النبى r وشخصيته ومناقبه باهتمام المستشرقين والمفكرين الغربيين . . . يقول المفكر الفرنسي المعاصر مارسيل بوازار في كتابه « إنسانية الإسلام » ، متحدثاً عن طبيعة المواقف واتجاهات المستشرقين في الغرب ، بقوله :
(( لقد سبق أن كتب كل شيء عن نبي الإسلام . فأنوار التاريخ تسطع على حياته التي نعرفها في أدق تفاصيلها . والصورة التي خلفها محمد عن نفسه تبدو ، حتى وإن عمد إلى تشويهها ، « علمية » في الحدود التي كشف فيها ، وهي تندمج في ظاهرة الإسلام عن مظهر من مظاهر المفهوم الديني ، و تتيح إدراك عظمته الحقيقية . ولا رب أن تقدم نبي الإسلام يتلون تلوينات دقيقة تبعاً لمواقف ثلاثة : الرغبة النابعة من الود والاحترام ، أو من السخرية ، في إثبات أن الإسلام هو ، على الأخص ، من صنع رجل ، والسعي إلى أتحاذ تطور البيئة الاجتماعية دليلاً لتفسير ظهوره ، والاعتقاد بأنه كلام الله ، ومحمد الذي يوليه المسلمون ولا ريب نوعاً من الإجلال الورع قد يكون من الخطر إساءة تأويله ، هو على وجه الحصر المبشر بالكلام السرمدي ولا يتمتع في نظر المؤمنين بالأهمية التي يتمتع بها يسوع المسيح مثلا في نظر المسيحيين .
ومع ذلك يبدو الإطلاع على حياته ضرورياً ، نظراً للعلاقة الوثقى بين الرسالة والرسول ، فمع أن القرآن يلح على طبيعة النبي البشرية البحتة ، إلا أنه يجعل منه « أسيرة حسنة ، يقتدي بها المؤمنون )) .
أول المئة الأوائل في التاريخ
وفي عداد أولك الذين أنصفوا الرسول r وأعطوه بعض حقه ، وتمثلوا روح الإسلام ، وأدركوا موضوعياً أهمية الرسول التاريخية ، بعيداً عن المواقف المتزمتة أو المتعصبة معه أو ضده ، يقف في الطليعة الدكتور مايكل هارت صاحب كتاب : «المائة الأوائل » ، الذي يشدنا إلى أن نقف معه عند نظرته العلمية ، التي وضعها لتصنيف عظماء التاريخ ، ضمن سلم ترتيبي ، اختاره حسب مقاييس منطقية يمليها أولاً وأخيراً ، أثر هذه الشخصية في التاريخ في مرحلتها ، وفي تكوين اتجاهات المراحل التالية وديمومة هذا الأثر . وكان منطلقه الذي وضعه لنفسه يرتكز على النقاط الثلاث التالية :
الأهمية الأولى للأشخاص الذين أثروا في التاريخ تأثيراً دائما سواء في ذلك الشخصية المشهورة أو المغمورة أو الشريرة ، المتواضعة أو المغرورة .
الاعتماد في تصنيفه السابق على الشخصيات التي أثرت على الصعيد العالمي وعدم الأخذ بالشخصيات التي أثرت على الصعيد المحلي . . .
وفي تقرير مكانة الشخص ، أخذ الباحث بعين الاعتبار أهمية الحركة التاريخية التي أسهم بها ، رغم إدراكه أن ضرورة حركة التطور التاريخية ليست ناجمة عن عمل أفراد . . [2]
وتبعاً لهذه المعايير العلمية التي وضعها هذا الباحث لأولئك المئة الذين اعتبر كلا منهم من الشخصيات الرائدة حقاً في التاريخ ، كان الرسول r على رأس السلم ، وهكذا ليس بدعاً بالنسبة لنا نحن العرب المسلمين ، أن نرى في صنيعه بادرة إنصاف عظيمة ونظرة علمية متجردة ، من مفكر غربي ، اضطر معها إلى تقديم التبرير والدفاع عن اختياره لأنه يقدم كتابه لأبناء جلدته من الغربيين . . فهو يقول في دراسته شخصية الرسول وأثره في التاريخ
(( إن اختياري محمداً ليكون الأول في قائمة أهم رجال التاريخ ربما أدهش كثيراً من القراء إلى حد قد يثير بعض التساؤلات ، ولكن في اعتقادي أن محمداً r كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي .
لقد أسس محمد(ص)ونشر أحد أعظيم الأديان في العالم ، وأصبح أحد الزعماء العالميين السياسيين العظام . ففي هذه الأيام وبعد مرور ثلاثة عشر قرناً تقريباً على وفاته ، لا يزال تأثيره قوياً عارماً
وحين أجرى المؤلف مقارنة بين محمد والمسيح وجدهما متساويين في العظمة ، غير أنه قدم محمداً لكزنه هو الذي قام بإرساء قواعد الدين الإسلامي و نشره بنفسه بينما نجد أن المسيح عليه السلام قدم رسالة روحية وأفكارا أخلاقية سامية ، إلاً إن علم اللاهوت ألمسيحي مدين للقديس بولس ، وأضاف إليها قسماً كبيراً مما يؤلف العهد الجديد في الكتاب المقدس ...
ويتحدث هارت في مقدمة كتابه عن مبررات تصنيف الرسول r في مرتبة أعلى من يسوع المسيح ، بقوله :
(( ولأن في اعتقادي أن محمداً له تأثير شخصي على صياغة الدين الإسلامي أكثر مما كان ليسوع من تأثير على الدين المسيحي ))
أعظيم العظماء وفوق كل عبقرية
هذا ويلتقي الدكتور مايكل هارت مع العديد من الباحثين في الشرق والغرب في تقويمه عظمة الرسول ، ويتحدث المفكر السوري الأستاذ فارس الخوري ، عن عظمة الرسول و عظمة الرسالة ، في خطبة ألقاها بمناسبة ذكرى عيد المولد النبوي :
(( إذ محمداً أعظيم عظماء العالم ، ولم يجد الدهر بعد بمثله والدين الذي جاء به أوفى الأديان وأتمها و أكملها)).
لقد اشتملت شخصية الرسول على شمائل عظيمة وصفات نبيلة ومزايا حميدة ، دفعت شاعراً لبنانياً هو الأستاذ رشيد سليم الخوري الملقب بالشاعر القروي إلى نظم القصائد في مدح الرسول الذي أشرقت شمس الهداية على يديه ، فكان ذلك الفاتح الفذ الذي حول القفار القاحلة إلى مدنية مشربة بأنوار رسالة الإسلام التي لم تكن للعرب وحدهم بل للإنسانية جمعاء ، يقول القروي في محاضرة له عن رسول (ص)
(( فلا وليم شكسبير، ولا فكتور هوغو، ولا لاون تولستوى، ولا غيرهم من أمثالهم يطولون مهما اشرأبت أعناقهم إلى الدرجة السفلى من تلك المنصة العالية التي يقف عليها محمد بن عبد الله ، لأنه الرجل الذي تلتقي أكمل الصفات في قلبه الكبير، وعقله الفريد ورقته المتناهية وروحه المتدفقة بشرف الإحساس وروح العاطفة )) .
ويتحدث البحاثة اللبناني لبيب الرياشي في كتابه : نفسية الرسول العربي ، عن أثر الرسول عليه حين اطلع على سيرة حياته ودرس رسالته ، فكان أن شعر بالندم لأنه جهل سابقاً عظمة الرسول ونفسيته « وهو الإمام الأعظم » وحسب المرء أن يستنير بهديه ويعمل بسنته حتى يغدو إنساناً آخر ، ولو أن العرب اليوم أدركوا الجوهر الحقيقي لسيرة سيد الرسل ، لغيروا ما بأنفسهم أولا وغيروا العالم ثانياً ، يقول :
(( أما لو أدرك المسلمون سيرة الرسول بجوهرها ، وشرع الرسول بسنائه ، وحكم الرسول بجلالها ، وإبداع الضمائر الجديدة التي ابتدعها الرسول بحدتها الوضاءة ، وعملوا بما أدركوا لكان المسلمون غير هؤلاء المسلمين ، ولكان العالم غير هذا العالم - ثم قال - أما لو درس عشاق الرسول وعشاق العظماء والحكماء والمبدعين غير العرب ، بطهارة وجدان وبراءة سريرة ، وتحليل عبقري ، حياة الرسول العربي ، وسمو الرسول العربي وبراءة سريرته وأعماله وشرعه ، لاستكشفوا أعظيم شخصية وأقدس رسالة للتاريخ الإنساني ، ولقد طالعت مئات المجلدات وقرأت حياة ألوف العظماء والرسل ، ولكن مئات المجلدات وحياة ألوف العظماء والرسل ما فعلت بنفسي وأثرت في دماغي وهذبت وثقفت وأدهشت ، مثلما فعلت حياة الرسول العربي العالمي ، محمد بن عبد الله ))
مكامن عظمته علبه السلام متعددة الجوانب
ويشير مولانا محمد على في مقدمة كتابه حياة محمد ورسالته إلى أن لكل أمة وشعب إنسانها الكامل الأمثل ، وأن صفات الكمال والعظمة لا تكمن في الرسول محمد لأنه لم يكن رسول أمته فقط ، بل كان للإنسانية كافة . ولقد جمع في هذا الصدد أقوال عدد من المستشرقين عن مكامن عظمته المتعددة الجوانب ، بقوله :
((أنا أومن ، شأن كل مسلم . بأنه كان لكل أمة إنسانها الأمثل (سوبرمان )، أو الكوكب الساطع الذي أعطاها النور، والمصلح الذي ألمها فكرات نبيلة ، والرسول الذي رفع من شأنها أخلاقياً . ولكن محمداً (ص) هو الرسول الأعظم Par excellence لأنه ليس رسول أمة واحدة بل رسول أمم العالم كافة ، ولأنه هو - دون غيره من الأنبياء - أعلن الإيمان بجميع رسل العالم جزءاً أساسياً من العقيدة التي بشر بها، وبذلك وضع الأساس لسلم سرمدي بين مختلف الأمم. ولأنه «هو أعظيم الصلحين جميعاً» (بوزوورث سميث Bosworth Smith) باعتبار أنه أحدث تحولاً نحو الأفضل لم يحدث نظيره لا قبله ولا بعده ، ولأنه - أخيراً - «أوفر الأنبياء والشخصيات الدينية حظاً من النجاح » «الموسوعة البريطانية » تحت مادة : «قرآن» .
إن أحكامنا على الرال يجب أن تبنى على ما حققوه من أعمال ، ولقد أنجز محمد الرسول في مدى عشرين سنة ما عجزت عن إنجازه قرون من جهود المصلحين اليهود والنصارى برغم السلطة الزمنية التي كانت تساندهم . لقد استأصل من بلد كامل تراث أجيال من الوثنية « والخرافة » وسرعة التصديق ، والجهل « والبغاء» والقمار ، ومعاقرة الخمر ، واضطهاد الضعيف ، والحرب الضروس ، ومئات من الشرور الأخرى . وليس في استطاعة التاريخ أن يدلنا على أي مصلح آخر وفق إلى إحداث تحول في مثل هذه الروعة والتمام ، وعلى مثل هذا النطاق الواسع خلال فترة في مثل هذا القصر . « فلم يكن الإصلاح في أي يوم من الأيام ميؤوساً منه أكثر مما كان ، عند ظهور الرسول - كما لاحظ ميووير Muir - ولم يكن أكثر كمالاً منه عندها التحق بالرفيق الأعلى . وبكلمة أخرى ، « كان ذلك ولادة من الظلمة إلى النور » كما يقول كارليل . وحياة في مثل هذه العظمة لا يمكن أن تكون خلواً من كمونيات Potentialities عظيمة ، بنسبة مماثلة للمستقبل . إنها لا يمكن أن توحي إلى أيما قلب من القلوب بأنبل الفكرات الدائرة حول خدمة الإنسانية . وإذا كان في سمات خلقه سمة اكبر تميزاً من غيرها فتلك السمة هي حدبه على اليتيم والأرملة ، ونصرته للضعيف والمسكين ، وحبه للعمل والسعي من أجل إغاثة الملهوف . إنها حياة رجل عاش لله ومات في سبيل الله . «إن يكن قد قدر لإنسان على سطح هذه الأرض أن يجد الله في يوم من الأيام ، وإن يكن قد قدر لإنسان أن يقف حياته لخدمة الله بدافع خير وعظيم فليس من ريب في أن نبي بلاد العرب هو ذلك الرجل » لييونارد
عظمة الرسول و مواهبه المختلفة
هذا ، و قد درس الباحث الإنكليزي المستشرق مونتجمري وات ، عظمة الرسول في كتابه : « محمد في المدينة » ، انطلاقاً من النجاح الذي حققه على مسرح التاريخ الذي ظهر عليه ، والظروف الزمانية والمكانية التي ساعدته ، وهيأت المناخ الطبيعي لانتشار الإسلام في جزيرة العرب والتطور اللاحق الذي جعل منه ديناً عالمياً . . .
ولكن ، رغم تركيزه على العوامل الزمانية والمكانية في مرحلتها التاريخية ، والتي كانت مقدمة التحولات الكبيرة التي هي ابنة واقعها ومرحلتها » لم يغفل مونتجمري وات ، الدور الكبير الذي اضطلع به الرسول (ص) الذي هو في شخصيته وعظمته مزيج من السجايا الرائعة والمواهب العالية ، يقول :
(( ولولا هذا المزج الرائع من الصفات المختلفة الذي نجده عند محمد لكان من غير الممكن أن يتم هذا التوسع ، ولاستنفذت تلك القوى الجبارة في غارات على سورية والعراق دون أن تؤدي لنتائج دائمة . ونستطيع أن نميز ثلاث هبات مهمة أوتيها محمد ، وكانت كل واحدة منها ضرورية لإتمام عمل محمد بأكمله .
لقد أوتي أولا موهبة خاصة على رؤية المستقبل . وكان ثانياً رجل دولة حكيماً .. وكان ثالثاً رجل إدارة بارعاً .... ))
ويخلص مونتجمري وات إلى القول :
(( كلما فكرنا في تاريخ محمد وتاريخ أوائل الإسلام ، تملكنا الذهول أمام عظمة مثل هذا العمل . ولا شك أن الظروف كانت مواتية لمحمد فأتاحت له فرصاً للنجاح لم تتحها لسوى القليل من الرجال ، غير أن الرجل كان على مستوى الظروف تماماً . فلو لم يكن نبياً ورجل دولة وإدارة ولو لم يضع ثقته بالله ، ويقتنع بشكل ثابت بأن الله أرسله ، لما كتب فصلاً مهماً في تاريخ الإنسانية . ولي أمل أن هذه الدراسة عن حياة محمد يمكنها أن تساعد على إثارة الاهتمام ، من جديد ، برجل هو أعظيم رجال "أبناء آدم " ))
الشخصية الثورية الانقلابية
هذا ، وقد جذبت شخصية الرسول الكثير من الباحثين إلى دائرتها فأعجبوا بها عن اقتناع بعظمتها وجاذبيتها ، وإيمان بتلك العبقرية الخالدة . . من ذلك ما رآه المؤرخ البريطاني تشارلس أرمان ( 1886 - 0194) في دراسة له عن الإسلام ، أن شخصية الرسول ثورية انقلابية لم تؤثر على المستوى المحلى فحسب بل على المستوى العالمي كذلك ، يقول
(( إن شخصية محمد ثورية وانقلابية ، تفوق مقدرة الشخص الموهوب العادي ، فلم تنتج بلاد العرب قبله ولا بعده فرداً أثر في مجموع تاريخ العالم ، ويكون من المضحك حقاً الادعاء أنه نتيجة محتمة لحالة بلاد العرب الفكرية والاقتصادية في القرن السابع بعد المسيح ، بل أن مبدأه الذي جاء به هو مبدأ اعتنقته أمم سرعان ما تحققت فكرته في بلاد العرب لأنها نافعة ولم يكن فيها ما يحارب لأجله غيرها من الديانات السابقة )).
أجل ، ان شخصية الرسول ثورية وانقلابية ، فهي ثورة في فعلها وانية مجيئها كحدث تاريخي كوني في مرحلتها كضرورة حتمية لعالم يعج بالمتناقضات ويتهيأ للتبديل بهدم قيم قديمة بالية وبناء عالم جديد ومجتمع متقدم ...
لقد جمع الرسول في برديه كفاءات متعددة كنبي ملهم وقائد سياسي فذ ، ومشرع بارز ، ورجل عسكري من الطراز الأول ، كتب الأستاذ فريد وجدي في الموسوعة الفرنسية لاروس :
(( ومن أعجب العجيب أن الذي أتى بكل هذه الأعمال يعني ( محمد r) كان قائداً ، مشرعاً ، قاضياً ، إماماً ، واعظاً ، خطيباً ورب أسرة ، فكانت قيادته أحسن القيادات وكان يخوض الغمرات فيكشفها عن أصحابه . وشرعه أعدل الشرايع للآن . وقضاؤه أقوم الأقضية . وكان وعظه أنفذ وعظ إلى النفوس وخطبته تأسر الألباب ، وكان في أسرته من العدل والرأفة بحيث كان يجلب شاته ، ويعين على عملهن . فإن ضن ضان على (محمد بن عبد الله ) بالرسالة فليسمح لي أن أقول إنه أرق من الرسول ))
المناضل الفذ
ولقد أوضحت لنا سيرة الرسول ، أي مناضل فذ هو ، والقدر الذي يتحلى به من الشجاعة والقوة مع دماثة الخلق والرقة ، وأية إنجازات استطاع أن يحققها في مرحلة وجيزة ، وقد تحدث أستاذ السامية ومحرر مجلة العالم الشرقي ، المستشرق الأسوجي سينرستن ( 1866 ) وصاحب كتابي : « القرآن و الإنجيل المحمدي و تاريخ حياة محمد » فقال في مؤلفه الأخير :
(( إنا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا ، فلقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية ، مصراً على مبدئه ، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين ، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع وهو فوق عظماء التاريخ))
العبقرية المتكاملة
أن عبقرية الرسول ، في عرف الدارسين عبقرية متفردة متكاملة ، فهي تقدم صورة للإنسان الكامل والنبي والداعية ورجل الفكر والسياسة والقائد العسكري ، والمصلح الاجتماعي الكبير والرجل المخلص الصادق الأمين ، الذي امتلأ رجولة وحيوية . . .
نابليون السماء
ويتحدث المستشرق الفرنسي جان بروا في كتابه « محمد نابليون السماء » عن تلك العبقرية المتكاملة ، التي ثقفت في مدرسة الحياة بقوله :
(( وكان محمد نبياً ومشرعاً وسياسياً وملكاً عظيماً وخطيباً مفوهاً وقائداً خطيراً محنكاً ، وإن كان لم يدخل جامعة من جامعات الرومان ، ولا مدرسة من مدارس فارس ، إن محمداً قد كبر اسمه واعتز بربه حتى عرف باسمه وحده دون ذكر أسرته كما عرف نابليون ، وإن محمداً لنابليون السماء ))
النبي الملهم والإنسان
وكات هذه العبقرية المتكاملة والعظمة السامية ؟ قد اجتمعت إلى خصال حميدة ، لإنسان لم يداخله الغرور البته ، بل ظل ينظر إلى ذاته على انه واحد من أفراد تلك الأمة . يقول الأستاذ كرادي فو :
(( أن محمداً كان هو النبي والملهم والمؤسس ، لم يستطع أحد أن ينازعه المكانة العليا ... ومع ذلك فلم ينظر إلى نفسه كرجل من عنصر آخر، أو من طبقة أخرى غير طبقات بقية المسلمين . إن شعور المساواة والإخاء الذي أسسه بين أعضاء الجمعية الإسلامية ، كان يطبق تطبيقاً عملياً حتى على النبي نفسه )) .
المعرفة الواسعة والمقدرة الفذة
وكان لتلك العبقرية المتكاملة التي جمعت التفكير العميق بالعمل الدؤوب وحسن الإدارة والنجاح كداعية يجتذب القلوب أن حقق للدعوة الإسلامية النجاح ، يقول المستشرق الإنكليزي صموئيل زويمر (1843~ 1904 ) في كتابه " يسوع في إحياء الغزالي " :
((أن عبقرية محمد هي السبب في نجاحه واستطارة شأنه ، يضاف إلى هذا كله معرفته العظيمة بالديانات في عهده ، وقوته في اجتذاب القلوب إليه ، ومقدرته في الإدارة والحرب ، ولباقته في السياسة الفائقة ))
نبوغ و ذكاء و حسن سياسة
هذا ، و قد اتسمت عبقرية الرسول بالنبوغ و الذكاء اللذين ، امتلكهما ، مقرونين بحسن السياسة ، فاستطاع في فترة وجيزة أن ينشر الدعوة الإسلامية الخيرة .
يقول المستشرق برتلمي سانت هيليا في كتابه « مع الشرق » :
كان محمد أزكى العرب في عهده وأكثرهم تقوى وديناً ، وأرحبهم صدراً ، وأرفقهم بأعدائه وخصوم دينه ، وما استقامت إمبراطورته الخارقة إلا بسبب تفوقه على رجال عصر ، وأما الدين الذي راح يدعو إليه فقد كان خيرا عظيماً على الشعوب التي اعتنقته وآمنت به )) .
رجل المثالية والخيال
أما المستشرق والمؤرخ الهولندي راينهارت دوزى (2018 - 1884)، فقد سطر في مؤلفه «مسلمو الأندلس » قائلاً :
(( لعل الرسول محمداً كما كان يلقب نفسه - لم يكن أسمى من مواطنيه - ولكن المؤكد أنه لم يكن يشبهم ، كان صاحب خيال ، في حين أن العرب مجردون عن الخيال ، وكان ذا طبيعة دينية ولم يكن العرب كذلك ، وكان محمد يقبح ما كان عليه قومه من عادات جاهلية كانوا يعكفون عليها، وكان على جانب مثالي من التواضع للناس والإيمان بربه . وهذه من عوامل تقدم رسالته )) .
نبي العالم والإنسان الكامل
ومن دلائل عظمة الرسول ، كماله في عبقريته و صفاته و بكمال الرسالة إلى حملها للعالم أجمع يقول المستشرق الألماني الكبير ، تيودور نولدكه ( 1836-1920 ) في كتابه :"تاريخ القرآن"ً
(( نزل القرآن على محمد نبي المسلمين بل نبي العالم ، جاء بدين إلى العالم عظيم، وبشريعة كلها آداب وتعاليم ، وحري بنا أن ننصف محمداً في الحديث عنه لأننا لم نقراً عنه إلا كل صفات الكمال فكان جديراً بالتكريم ))
محمد القدوة والرمز
أن حياة الرسول في مواقفه الحاسمة وسلوكه العام ، قد جعلت منه القدوة والرمز . . فهو رمز للحكم العادل والسياسة الدينية الصحيحة ، وصاحب المنهج الاجتماعي السديد ، يقول عنه الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر ( 0182 - 0193) في كتابه : "أصول الاجتماع " :
(( فدونكم محمداً ، انه رمز للسياسة الدينية الصحيحة ، واصدق من نهج منهاجها المقدس في البشرية كافة ، ولم يكن محمد إلا مثالاً للأمانة المجسمة والصدق البريء وما زال يدأب لحياة أمته ليله نهاره )) .
رسول الإنسانية الجديدة
أن يكون الإنسان القدوة والرمز ، معناه أن يبلغ مرحلة الكمال ، عميق الأثر في وجدان الأفراد والجماعات ، يؤلف بين القلوب ، ويوحد الإرادات ، وأن يحترمه الغريب قبل القريب ، والمسيحي قبل المسلم . . يقول الكاتب اللبناني لبيب رياشي في مؤلفه " نفسية الرسول العربي "
(( حقاً ان محمد إنك الشاعر الأعظم » حقاً إنك السوبرمان الأول العالمي ، رسول الثقافة والعلم ، رسول الهداية والتضحية ، رسول الفلسفة الجديدة ، رسول الإنسانية الجديدة ))
ويظل محمد القدوة والرمز ، ليس في عهده فحسب ، بل حتى عهدنا هذا وإلى يوم يبعثون . . فحري بنا كعرب ومسلمين أن نحتذي حذوه ، يقول المفكر السوري الأستاذ ميشيل عفلق في كتابه : « في سبيل البعث » :
« حتى الآن كان ينظر إلى حياة الرسول محمد من الخارج ، كصورة رائعة وجدت لنعجب بها ونقدمها ، فعلينا أن نبدأ بالنظر إليها من الداخل ، لنحياها ، كل عربي في الوقت الحاضر يستطيع أن يحيا حياة الرسول العربي ، ولو بنسبة الحصاة إلى الجبل والقطرة إلى البحر ، طبيعي أن يعجز أي رجل مهما بلفت عظمته أن يعمل ما عمل محمد ، ولكن من الطبيعي أن يستطيع أي رجل مهما ضاقت قدرته أن يكون مصغراً ضئيلاً لمحمد ، ما دام ينتسب إلى الأمة التي حشدت كل قواها فأنجبت محمداً ، أو بالأحرى ما دام هذا الرجل فرداً من أفراد الأمة التي حشد محمد كل قواه فأنجبها ، في وقت مضى تلخصت في رجل واحد كل حياة هذه الأمة في نهضتما الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم ، كان محمد كل العرب ، فليكن كل. العرب اليوم محمداً )) .
مؤسس سياسة غيرت مجرى التاريخ
لقد نظر منصفو المستشرقين إلى الرسول ليس كنبي عمل في إطار الجزيرة العربية فحسب ، بل كواضع أسس سياسة عالمية أثرت على المسيرة التاريخية كذلك ، يقول الكاتب الفرنسي المعاصر ، المستشرق مارسيل بوازار في مؤلفه : " إنسانية الإسلام " :
(( ولم يكن محمد على الصعيد التاريخي مبشراً بدين وحسب ، بل كان كذلك مؤسس سياسة غيرت مجرى التاريخ ، وأثرت في تطور انتشار الإسلام فيما بعد على أوسع نطاق ))
عظيم في دينه عظيم في مناقبه
أما المستشرق الفرنسي ساديو لوي ( 1807-1875 ) فيتحدث عن عظمة الرسول لا لكونه صاحب رسالة عالمية فقط ، ورجلاً عسكرياً فاتحاً للعرب والعالم وحسب بل عن عظمته في دينه ومناقبه وحاجة الإنسانية لرجل مثله ، يقول :
(( لم يكن محمد نبي العرب بالرجل الفاتح للعرب فحسب بل للعالم لو أنصفه الناس، لأنه لم يأت بدين خاص بالعرب ، وان تعاليمه الجديرة بالتقدير والإعجاب تدل على أنه عظيم في دينه ، عظيم في صفاته ، وما أحوجنا إلى رجال للعالم أمثال محمد نبي المسلمين )).
أما المفكر الإنكليزي المستشرق بوسورث اسمث ( 1815-1892) فقد خاطب العقل الأوروبي ، ورأى أن من الإنصاف أن ينظر إلى رسول الإسلام بمحبة واحترام ، لأنه من جهة بشر برسالة عظيمة تحمل الخير للبشرية جمعاء ، ولكونه من جهة ثانية عظيماً في كفاءاته العالية ، وسجاياه الكريمة ، وان الغرب المسيحي لا بد أن يقدره مستقبلاً حق التقدير ، يقول :
(( إذا قدرنا تاريخ الإسلام فنظرنا إليه من نافذة الإنصاف فإنما نقدر صاحبه الذي أسسه ووضع حجره الأساسي ، وهو - محمد - الذي لا نستطيع أن نقول في حقه إلا أنه رجل عظيم بعقله وعمله وأخلاقه وبلاغته و تدينه ، وسيحمل له المنصفون من النصارى وغيرهم الإخلاص متى عرفوه في المستقبل )) .
وأخيرا ، فإن معيار عظمة الأنبياء والقادة والمصلحين يظهر في مدى الإنجازات التي حققوها على الصعيدين المحلي والعالمي ، وتظل إنجازاتهم مستمرة راسخة باسقة ، يقول غوستاف لوبون :
(( إذا كانت قيمة الرجال تقدر بعظمة أعمالهم فعن المستطاع القول : إن محمداً كان من أعظم الشخصيات التي عرفها التاريخ )) .
أما الباحث الفرنسي المستشرق ديزريه بلانشيه فقد وجد في شخص النبي r مزيجاً نادرا من الكفاءات إذ حقق إنجازات عظيمة ما زالت راسخة ثابتة تقوم دليلاً قاطعاً على عظمته ، يقول :
(( إن النبي محمداً يعد من أبرز واشهر رجال التاريخ ، فقد قام بثلاثة أعمال عظيمة دفعة واحدة ، وهى أنه أحيا شعباً ، وأنشأ إمبراطورية ، وأسس دينا )) .