يبدو المشوار بسيطًا مثل بقية مشاوير الطفولة، (عمر.. روح هات لنا الزبادي
من عند بهجت)، وبهجت صاحب محل البقالة الصغير الموجود علي ناصية شارعنا
اشتهر بشيئين، الأول أنه يقف في المحل بالبيجامة، والثاني أنه أفضل من يصنع
الزبادي والجبن الأبيض الطازج منزليًا، كانت هذه البضاعة سر شهرته ونجاحه
في المدينة، لم تكن سوهاج وقتها قد عرفت الزبادي المُصَّنع والمغلف
أتوماتيكيًا، كان يصنعه في علب بلاستيك بلا غطاء، وهنا تكمن الكارثة.
المسافة
من منزلنا إلي المحل حوالي مائة متر، وبالوقت أصبحت المائة متر الأصعب في
مشوار حياتي، لم أعد يومًا بالزبادي سليمًا إلي المنزل.
في البداية
كان الأمر يبدو استهتارًا طفوليًا، أحمل أكواب الزبادي الملفوفة في ورقة
جورنال وبسبب الرعونة وطيش الطفولة كنت أسقط باللفة عندما يفاجئني الرصيف
أو عندما أتورط في محاولة لإحراز هدف بطوبة في منتصف الشارع بقذيفة بسن
الحذاء فأشوط الأسفلت، أو أن يختل توازني في مدخل العمارة وخلاص.
عاقبني
الأب في البداية بقرصة أذن خفيفة تصاعدت حدتها بمرور الوقت، ثم اختلطت
بالتوبيخ الشديد لكوني غير قادر علي تحمل المسئولية رغم تفاهة الموقف في
اعتقادي وقتها، حاولت أن أتنحي عن هذا الدور وأن أكتفي مثلاً بشراء الخبز،
لكن أهل البيت رفضوا وأصروا علي أن أكرر المشوار نفسه يوميًا علشان
أتعلم...، وفي إحدي المرات كنت قد صعدت عدة درجات من السلم ثم فوجئت بابن
الجيران كعادة كل المصريين ينادي علي أهله (علشان ينزلوا له السَّبت)، وفي
عز حرصي وتركيزي الشديد وأنا أصعد السلم شق هذا السكون الهائل صوت جهوري
(يا حااازييييم ..) فانهرت تمامًا، ولم أدر بنفسي إلا وأنا أمسك بحازم
وأنهال عليه ضربًا وصفعًا (كده وقعت الزبادي؟.. طرااخ.. كده؟.. ديب)،
وأصريت علي ألا أتركه قبل أن ينزل والدي ليكون شاهدًا علي عدم تقصيري هذه
المرة.
بعدها أذكر أنني سمعت أمي يومًا تقول لأبي باكية (الواد لازم
يجيب الزبادي.. لازم ندي له فرصة ونشجعه ...الواد هيتعقد كده)، فبدأت
مرحلة جديدة مليئة بالتشجيع وبحلول أبي المبتكرة، في البداية أحضر صندوقًا
بلاستيكيًا أزرق اللون مازلت أذكره حتي هذه اللحظة، وطلب مني أن أضع فيه
علب الزبادي وأحمله بحرص، وكانت الخطة ناجحة حتي صدمتني دراجة أثناء عبوري
الشارع، حاولت مرة أخري وكانت شبه ناجحة ..أذكر أن والدتي ووالدي كانا
يقفان علي بسطة السلم يراقبان الموقف ويشجعانني، نظرت إلي وجه أمي ورأيتها
مبتسمة، شجعتني ابتسامتها فأسرعت قليلاً فعلقت قدمي بإحدي درجات السلم ولم
أجد ما أحمي به وجهي سوي الصندوق البلاستيك فغطي الزبادي وجهي، سمعت أبي
يقولها بصوت عال (يوووووووه)، أما أمي فقد هونت عليَّ الأمر.
منحاني
أجازة أسبوعًا من هذا المشوار، وفي مرة كنت عائدًا أنا وأبي ومررنا بمحل
بهجت، اشتري بعض المستلزمات، وفي حركة خبيثة عمل نفسه مشغولاً بحملها وطلب
مني أن أحمل الزبادي، كان أبي خلال هذا المشوار يلعب دورين، دور خبير
الكوارث الذي يدرس الأمر ليعرف أسبابه، ودور الملاح الذي يوجهني خلال
الرحلة، ويبدو أنه اكتشف السر، حيث لم يكرر علي مسامعي طوال الرحلة سوي
جملة واحدة (ماتحطش وشك في الأرض وإنت ماشي)، نجحت خطة أبي ووصلت بالزبادي
سالمًا، لم أدخل به إلي المطبخ ولكن إلي حيث تجلس أمي، كنت سعيدًا ومنتشيًا
للغاية، وكانت في عينيها فرحة ودموع ما، وكافأتني أنا وأبي بأن صنعت لنا
صينية بيتزا.
أصبح بهجت ثريًا، وحوّل محل البقالة إلي محل لتجارة
الذهب، صار يقف فيه مرتديًا بنطلونًا وقميصًا، أما أنا فقد أصبحت رجلاً لا
يمتلك أي سبب للسعادة سوي أنه أقلع منذ زمن بعيد عن (البص تحت رجليه).