كنت
أدور بين أرجاء الغرفة شاعرًا بالملل، متأملاً كل هذا الفراغ
الذي يسيطر علي
حياتي، فراغ منحني الله إياه بدون مقابل، ثروة من الوحدة تليق بفيلسوف
يبحث عن معني.
اصطدمت
بوجهي في المرآة، كان عابسًا كشخص لا يتوقع شيئًا، رن
الموبايل، لمحت
رقمها، أعرف رقمها جيدًا رغم أني محوت اسمها منذ انتهت علاقتنا وأصبحت
تعيش بعيدًا، كل فترة أعود إلي موبايلي لأمحو الأسماء التي انتهت علاقتي بها ولم
يتبق منها سوي أرقام تنام جثثاً في الثلاجة، ترددت قبل أن أرد، طالما هاتفتني ولم
أرد عليها (أكره شعورها بالذنب تجاهي لأنها تركتني)، قررت أن أرد لأنني لا أتوقع
مكالمات في القريب العاجل من أشخاص أحبهم إلي هذه الدرجة.
توقعت
أن تكون المكالمة عابرة مليئة بالأسئلة الساذجة والمشاعر
المرتبكة، في
الواقع كانت المكالمة تسير علي هذا النحو في العشرين دقيقة الأولي، لكنني
قلت لنفسي فلتكن حقيقيا، أنت تتحدث لشخص تحبه ربما لن تلتقي به في حياتك مرة أخري
سوي مصادفة، فما الذي يمنع أن تنعش قلبك وأن تدخل عبر أسلاك الهاتف إلي غرفة عناية
مركزة بحجم قلبها الرقيق؟.
باغتُّها
بإعلان افتقادي لها فصمتت بما يعني أنها تفتقدني لدرجة
البانتوميم،
سألتها عن حياتها الجديدة وعن مرضها الأخير، كانت كعادتها تغلف إجاباتها
بسخرية لاذعة، أضحكتني لدرجة أنني قمت لأعد لنفسي كوبًا من الشاي وهي معي علي
الهاتف، أشعلت سيجارة وأطفأت الأنوار وتوحدت معها، أيقظ صوتها في قلبي مسارات جديدة
للدماء فشعرت بحياة ما تدب في أركان جسدي.
حكيت
لها عن وحدتي، فعرضت علي أن تجري لي جلسة علاج نفسي عبر
الهاتف، سألتني
وحكيت، فسرت لي ما لا أفهمه ببراعة وأكدت لي أنني زي الفل وأنني الوحيد
في العالم الذي يعيش متونسًا بوحدته لكنه لا يعترف بذلك، قلت لها إن الله خلق
الحياة لكي تتم قسمتها علي اثنين، رجل وامرأة هكذا تسير الأمور، لا معني للفرحة ما
لم تقتسمها مع أحد فتصبح أكبر علي عكس قانون القسمة، والحزن يصبح قاتلاً ما لم يتعاطف
معك أحد.
كدت
أطلب مقابلتها لكن صوتاً ما ناداها بلقبها الجديد فالتزمت
بحدودي، حاولنا
إنهاء المكالمة بلباقة ورقة دون جدوي، فاضطررت لأن أنهيها بقوة بحجة أنني
مضطر للاستيقاظ مبكرًا.
طلبت
مني أن أسمح لها بأن تهاتفني من حين لآخر لتطمئن علي، وافقت
وأنا أعرف أنني
ربما لا أرد عليها في المرة القادمة.
بعد
المكالمة أضأت شموعًا وأشعلت البخور، اصطدمت بوجهي في المرآة
فضبطتني
مبتسمًا بثقة، فتحت الراديو، كانت فقرة «ساعة مع نجم من نجوم fm» ، فرحت لأنها كانت ساعة مع أغاني
محمد محيي، يسخر أصدقائي كثيرًا من حبي لمحمد محيي، رفعت
الصوت دون أن
أهتم بالجيران، جيراني عراقيون، فليحمدوا الله علي أن من يزعجهم في هذا
الوقت هو صوت محمد محيي وليس صوت المروحيات الأمريكية.
كان صوت محيي يصلني واضحًا وأنا أقف تحت الدش، كنت
سعيدًا مستمتعًا بوحدتي وبخار الماء ورائحة الخوخ
المتصاعدة من الشامبو، استرجعت لقبها
الجديد الذي سمعته لأول مرة في المكالمة (ماما) فسرت بداخلي قشعريرة
ما، تخيلتها وهي
تحتضن ابنتها في هذه اللحظة فاطمأن قلبي عليها، عدت إلي فراشي، كان الفراش ناعمًا وكان جسدي مسترخياً،
ولكن القلق كان مستبداً