بعد أن نزل قوله تعالى :يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ بدأ
رسول الله يدعو سرا كل من وثق فيه إلى عبادة الله وكان أول من أسلم من
النساء زوجته خديجة التي وقفت بجانبه تصدقه و تأمن روعه وتهون عليه أمر
الناس وكان أول من أسلم من الصبيان على بن أبي طالب, ومن الموالى زيد بن
حارثة, ومن الرجال أبو بكر الصديق الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه و
سلم (ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه كبوة إلا أبى بكر) وبدأ أبو
بكر يدعو من وثق به إلى الإسلام فأسلم على يديه الكثير من الأحرار والعبيد
منهم عثمان بن عفان,و الزبير بن العوام, وعبد الرحمن بن عوف, وسعد بن أبى
وقاص, وطلحة بن عبيد الله وبدأ المسلمون يدخلون أفرادا في دين الله ويحلو
لكثير من المؤرخين القول بأن الإسلام في بدايته لم يجذب إليه إلا العبيد
والفقراء ومن لا شأن لهم فى قريش
أما عن أنهم عبيد فقائمة ابن هشام التى جاءت في عشر صفحات والمتضمنة
لأسماء المسلمين في الدعوة السرية لا تجد فيها غير عشرة من الموالى
والحلفاء من بين ثلاثة وخمسين شخصا, اما عن أنهم من الفقراء ومن لا شأن
لهم في قريش فدونك بعض أسماء السابقين فى الإسلام, والحكم لك على مقدار ما
كان لهم من نفوذ وثروة فخديجة بنت خويلد رضى الله عنها أول من أسلم على
الإطلاق كان لها من المال والتجارة ما يجعلها تنافس أكبر تجارة قريش ويكفى
ذكر اسمها ليدل على عظم ثروتها
أما أبو بكر فكان أول الرجال إسلاما وكان صاحب تجارة واسعة ومال كثير وكان
من رؤساء قريش فى الجاهلية وأهل مشورتهم وكان إليه أمر الديات والغرم فى
الجاهلية وما يقضى به فى ذلك الشأن كانت قريش تعمل به وتنفذه, وبلغ رأس
ماله فى الجاهلية أربعين ألف درهم أنفقها كلها في عتق رقاب العبيد
المسلمين
أما عثمان بن عفان فكان أكثر قريش مالا وأوسعهم تجارة وكانت تجارته إلي
الشام تحمل فوق ما يزيد عن مائة بعير وكان إليه ولاية أيتام أهل بيته
وإعانة فقيرهم وبارك الله له في ماله فجهز في الإسلام جيشا كاملا على
نفقته الخاصة هو جيش العسرة
أما طلحة بن عبيد الله فكان في تجارة رابحة ومال كثير وكانت تجارته تخرج
إلى أسواق الشام والعراق ومن السابقين إلى الإسلام أيضا الزبير بن العوام,
وسعد بن أبى وقاص- أبو عبيده بن الجراح أبو سلمة المخزومى والأرقم بن أبى
الأرقم وصيب الرومي وخالد بن سعيد وسليط بن عمر, وعمير أبى وقاص وكثير
غيرهم كانوا في ثروة واسعة أو على الأقل كانوا يحيون حياة كريمة في
مجتمعهم, وفات هؤلاء المؤرخين أن يفهموا طبيعة الدعوة الإسلامية التي إذا
مست شغاف القلب تعلق بها صاحبه لا فرق بين غنى وفقير أو حر وعبد وكان
السابقون يتلقون تعاليم دينهم سرا من نبيهم وِِِإذا أرادوا ممارسة شعائرهم
خرجوا إلى شعاب مكة بيعداً عن أعين قريش, ولما زاد عددهم اختار لهم رسول
الله دار الأرقم ابن الأرقم ليجتمعوا بها
وظلت الدعوة السرية حوالي ثلاث سنوات أسلم فيها حسب رواية ابن هشام ثلاثة وخمسين شخصا بينهم عشر نساء
ومن حسن طالع المسلمين في هذه الفترة أن أسلم حمزة بن عبد المطلب عم رسول
الله صلى الله عليه و سلم وكان أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة ولقب بأسد
قريش رجع يوما من صيده فعلم أن أبا جهل أعترض محمد ابن أخيه وآذاه وشتمه
وسب دينه فغضب وذهب إلى أبى جهل فضربه بقوسه ضربة شديدة شجت رآسه وقال:
أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول, فرد ذلك على إن استطعت, فقام رجال من
قريش لينصروا أبا جهل فقال لهم: دعوا أبا عمارة (يعنى حمزة) فأنى والله قد
سببت ابن أخيه سبا قبيحا, وأسرع حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
فقال: اشهد أنك الصادق, فاظهر يا ابن أخي دينك فو الله ما أحب أن لي ما
أظلته السماء وأنى على ديني الأول, وكان إسلام حمزة فاتحة خير لرسول الله
صلى الله عليه و سلم إذ عرفت قريش أن محمد قد عز وامتنع بإسلام حمزة فكفوا
عن سبه, وكان حمزة ممن أعز الله بهم الإسلام
بدأ رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلن دعوته بعد أن تنزل عليه قوله
تعالى:وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحإباحيه لِمَنِ
اتَّبَعإباحيه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وبدأ رسول الله صلى الله عليه و سلم
بعشيرته فدعاهم على طعام وخطبهم قائلا: الحمد لله أحمده واستعينه, وأؤمن
به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, ثم قال: إن
الرائد لا يكذب أهله, والله الذي لا إله إلا هو إنى رسول الله إليكم خاصة
وإلي الناس عامة, والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن
بما تعملون وأنها الجنة أبدا والنار أبدا فقال أبو طالب ما أحب إلينا
معاونتك وأقبلنا لنصيحتك واشد تصديقنا لحديثك و هؤلاء بنو أبيك مجتمعون
وإنما أنا أحدهم عير أني أسرعهم إلي ما تحب, فامض لما أمرت به, فوالله لا
أزال أحوطك وأمنعك غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب فقال
أبو لهب: هذه والله السوأه, خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم فقال أبو
طالب: لنمنعه ما بقينا
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا فصعد الصفا وهتف: يا صباحاه
فقالت قريش من هذا الذي يهتف قالوا: محمدا, فاجتمعوا إليه. فقال: يابني
عبد المطلب يابني عبد مناف يابني قصي ثم نادى قريش قبيلة قبيلة حتى أتى
على أخرهم فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيل بسفح هذا الجبل
أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: فأنى نذير لكم بين يدي عذاب
شديد فقال أبو لهب: تبا لك ما جمعتنا الا لهذا ثم انصرف فنزل قوله
تعالى:تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ الى آخر السورة
ولم يتوان رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد ذلك فى تبليغ دعوته فدعا
إليها ليلا ونهارا سرا وجهرا, يتبع قريش فى أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفى
مواسم حجهم وكان يدعوا كل من لقيه حرا أو عبدا ضعيفا أو قويا غنيا أو فقيرا
كان موقف قريش من الدعوة الإسلامية وصاحبها فى بداية أمرها موقف الاستهزاء
والسخرية، فكان إذا مر بهم الرسول صلى الله عليه و سلم أو رأوه يصلى عند
الكعبة يتغامزون ويتضاحكون ويسخرون منه، ولكنهم لم يتجاوزوا ذلك إلى
الايذاء الفعلى، فقد كان المجتمع المكي ينظر إلى دعوة محمد كدعوة من سبقه
من أمثال " أمية بن أبى الصلت " , " وقص بن ساعده " سرعان ما تنتهى وتندثر
وطالما أنه لا يتعرض لآلهتهم فلا خوف منه
ولكن بدأ أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم يزدادون يوما بعد يوم ونزلت
الآيات التى تطعن فى الأصنام " آلهة قريش ". وتعير قريشا بأنها تعبد آلهة
لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، وسفه عقولهم التى لا تبصر الحق من
الضلال والظلمات من النور ".. هنا بدأ الايذاء الفعلى من قريش لمحمد صلى
الله عليه و سلم ومن اتبعه من المسلمين وأوصى بعضهم بعضا بالنكاية بهم
ليفتنوهم عن دينهم فقام أبو طالب بحماية محمد صلى الله عليه و سلم والزود
عنه ضد قريش
وجدت قريش أنها لا تستطيع أن تنال محمد صلى الله عليه و سلم بكبير أذى
طالما أنه يتمتع بحماية عمه أبى طالب ومن ثم اجمعوا أمرهم على أن يكلموا
أبا طالب فى شأنه فذهب إليه وفد من أشرافهم يطلبون منه- خاصة وهو على مثل
دينهم –أن يكف محمد صلى الله عليه و سلم عن سب آلهتهم وعيب دينهم وتسفيه
أحلامهم وضلال آبائهم، أو يترك محمد صلى الله عليه و سلم لهم يفعلون به ما
شاءوا، فردهم أبو طالب رداً جميلا – ولكنهم وجدوا أن هذه المقابلة لم
تفدهم شيئا وأن محمد صلى الله عليه و سلم لم يكف عن الطعن فى آلهتهم،
والعيب فى آبائهم وأبو طالب يشمله بحمايته والزود عنه، فذهبوا إليه مرة
ثانية وأخبروه بأنهم لا يصبرون على شتم آبائهم وطعن آلهتهم وخيروه بين
أمرين، إما أن منع ابن أخيه عن دعوته وإما أن يعلنوها حربا عليه وعلى ابن
أخيه حتى يهلك أحد الفريقين، فوجم أبو طالب وأصابه هم شديد فهو بين أمرين
أحلاهما مر، فهو أما أن يترك قريشا تسوم محمد صلى الله عليه و سلم العذاب،
وإما أن يشترك معهم فى حرب غير مأمونه العواقب، لذا استدعى محمد صلى الله
عليه و سلم وأخبره بما قالت قريش، وقال له : "ابق على نفسك وعلي ولا
تحملني من الامر ما لا أطيق "فظن الرسول صلى الله عليه و سلم أن عمه قد
تخلى عن نصرته فرد رسول الله صلى الله عليه و سلم قائلا:"والله يا عم لو
وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على ان اترك هذه الامر حتى يظهره
الله أو اهلك فيه ما تركته"،وخرج رسول الله باكيا فناده ابو طالب وقال له
: اذهب يا ابن اخى فقل ما احببت فوالله لا أسلمك إلى شئ تكرهه ابدا
رأت قريش أن تجرب وسيلة أخرى مع أبى طالب علها تفيد، فاختاروا أقوى شباب
قريش وأجملهم وأشعرهم وهو عماره بن الوليد، وذهبوا به إلى أبى طالب
ليسلموه له ليتخذه ولدا فى مقابل ان يسلمهم محمداً ليقتلوه فقال لهم أبو
طالب : لبئس ما تسوموننى به أتعطونى إبنكم أغذية لكم واعطيكم ابنى لتقتلوه
وهذا والله لا يكون أبدا
ولما لم تجد قريش وسيلة للنيل من محمد اتجهت إلى من أسلم بها فسامتهم سوء
العذاب وصبته على رؤسهم صبا، فلما رأى ذلك أبو طالب دعا بنى هاشم وبنى
المطلب إلى حماية الرسول صلى الله عليه و سلم ونصرته ومنعه من قريش
فأجابوه كلهم مسلمهم وكافرهم إلا أبا لهب فإنه أمعن فى غيه وضلاله
رأت قريش أن تجرب اسلوبا آخر عله ينجح، ولكنه فى هذه المرة لن يكون مع أبى
طالب ولكنه مع صاحب الدعوة نفسه محمد صلى الله عليه و سلم وهو اسلوب
الحيلة والإغراء بالمال والجاه، فأرسلوا إليه عتبه بن ربيعة فقال يفاوضه
منه " إن كنت تريد بهذا الامر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا
مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت
تريد به ملكا لملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا تراه لا تستطيع
رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه اموالنا حتى نبرئك منه فلما فرغ
عتبة طالب منه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يستمع منه فقرأ عليهحم *
تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ
قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فلما سمع عتبه أخذ ينصت إليه
حتى انتهى الرسول إلى آية السجدة فسجدها وقال : أسمعت يا أبا الوليد، قال
سمعت، قال : فأنت وذاك
ثم عاد إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض : لقد جاء أبو الوليد بغير الوجه الذى
ذهب به، فسألوه ما وراءك فقال إنه سمع كلاما ما سمع بمثله قط فلا هو بشاعر
ولا كاهن ولا ساحر، وطلب منهم ان يخلوا بينهم وبين محمد وأن يتركوه لشأنه،
فإن يقتله العرب فقد كفوهم شره، وان يظهر عليهم فسيكونون أسعد العرب به
فملكه ملكهم وعزه عزهم فقالت قريش:لقد سحرك محمد والله يا أبا الوليد فقال
عتبه:هذا رأيى فاصنعوا ما بدالكم
وجدت قريش أن الإغراء بالمال والجاه لم يجد فتيلا مع محمد صلى الله عليه و
سلم وأن دعوته مستمرة فى الذيوع والانتشار، لذا نهجوا معه أسلوبا أخر
فطالبوه بالمعجزات حتى يصدقوه اجتمعوا يوما عند الكعبة وبعثوا إليه وطلبوا
منه أن يسأل ربه أن يفرج عنهم الجبال التى ضيقت عليهم مكة، وأن يفجر لهم
فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وأن يحيى آباءهم ومنهم قصي بن كلاب حتى
يسألوه إن كان ما جاء به حقا أم باطلا، فإن فعل ذلك صدقوه وعرفوا أنه رسول
الله إليهم، فقال لهم الرسول صلى الله عليه و سلم : ما بهذا بعثت إنما
جئتكم من عند الله بما بعثنى به فإن تقبلوه فهو حظكم فى الدنيا والآخرة
وإن تردوا علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، ثم سألوه أن
يسأل ربه أشياء لنفسه، بأن يبعث ملكا يصدقه بما يقول، وأن يجعل به جنانا
وقصوراً وكنوزا من ذهب وفضة فإنه يقوم فى الأسواق ويلتمس المعاش كما
يفعلون، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أنا بفاعل، ما أنا
الذى يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثنى بشيرا ونذيرا فإن
تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة وأن تردوه علي أصبر لأمر
الله حتى يحكم بيني وبينكم
وقريش فى طلبها لهذه المعجزات من رسول الله صلى الله عليه و سلم ما كانت
لتؤمن برسالته إذا تحققت، بل كانت ستتمادى فى غيها وعنادها، كما أن رسول
الله صلى الله عليه و سلم كان رحيماً بهم، فهو يعرف أن سنة من قبله من
الرسل إذا سألوا ربهم المعجزة لقومهم فتحققت فكذب القوم حق عليهم العذاب،
ومحمد صلى الله عليه و سلم لم يرد لقريش هذا المصير، فقد سألته ان يجعل
لهم الصفا ذهبا حتى يؤمنوا، فقال : وتفعلوا، قالوا : نعم فدعا ربه فأتاه
جبريل : فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك إن شئت أصبح لهم الصفا
ذهبا فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن
شئت فتحت لهم أبواب الرحمة والتوبة قال : بل التوبة والرحمة، و يقول الله
تعالى فى شأن مطالبتهم لمحمد صلى الله عليه و سلم بالمعجزات وعدم إيمانهم
بها لو تحققتوَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ
وإباحيهلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً
مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَجْهَلُونَ ، وقوله وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآَيَاتِ إِلا أَن
كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً
فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا بدأت أخبار
الدعوة الإسلامية تتجاوز حدود مكة وتتسرب إلى بعض البلدان القريبة منها
فرأت قريش أنه وقد قرب موعد الحج واجتماع الناس من سائر البلاد إلى مكة
فلابد لهم من كلمة يقولونها لهم في أمر محمد صلى الله عليه و سلم ودعوته،
واتفقوا على أن يقولوا لهم إنه ساحر وجاء ليفرق بين الابن وأبيه وبين
الزوج وزوجته، هادفين من ذلك إلى صرف الناس عن دعوة محمد صلى الله وعليه
وسلم ولكن كان لمقالتهم هذه عكس ما أرادوا إذ نبهت العقول في سائر بلدان
شبه الجزيرة إلى الدعوة المحمدية، وأخذ الناس في هذه الأقطار يتسمعون
أخبارها ويتساءلون عن البني الجديد وعن حقيقة دعوته وبذلك انتشر ذكرها في
سائر بلاد العرب من حيث أرادت قريش كتمانها
وجدت قريش أن مفاوضتها السلمية مع رسول الله صلى الله وعليه وسلم لم تجد
فوقفت بالمرصاد للدعوة الإسلامية وللمسلمين، ورغم حماية بني هاشم لرسول
الله صلى الله وعليه وسلم إلا أنه لم يسلم من أذاهم فكان أبو لهب يلقى
بالعذرة-فضلات الانيان و الحيوان- والنتن على بابه وعقبة ابن أبي معيط
يخنقه بثوبه خنقا شديداً وهو قائم يصلي ويرمي على ظهره سلا جزور-وهي مشيمة
الناقة التي تحرج مع الوليد عند ولادته-وهو ساجد
أما المسلمون فقد صبت قريش لجام غضبها عليهم ولم يتوقف إيذاؤها للمستضعفين
والعبيد منهم، بل اضطهدت وعذبت الأغنياء والأحرار فهذا أبو بكر رضى الله
عنه اجتمعت عليه قريش في المسجد فداسوه بأقدامهم وضربوه بنعالهم ضرباً
شديداً على وجهه حتى غطى بالدم ثم ضربوه على بطنه ضرباً شديداً حتى فقد
وعيه وأتت قبيلته فلفته في ثوب والجميع يظنون أنه مات من قسوة الضرب
وعثمان بن عفان رضى الله عنه يعلم عمه بإسلامه فيأمره بترك الإسلام أو
يعذبه عذاباً حتى الموت فأبى عثمان إلا الإسلام فحبسه في حجرة مظلمة وقيده
بسلاسل من حديد وحرم عليه الطعام والشراب
وطلحة بن عبيد رضى الله عنه يعلم بإسلامه نوفل بن خويلد فيشد وثاقه في حبل
ويسحبه في طرقات مكة ويذهب به الى دار أبي بكر فيقرنه مع طلحة في حبل
ويطوف بهما في طرقات مكة يسخر منهما الصبيان و العبيد ومن يومها سمي أبي
بكر و طلحة بالقرينين
و الزبير بن العوام رضي الله عنه يسمع عمه بإسلامه فيقسم أنه إن لم يعد
إلى دينه الأول ليحرقنه، ولكن الزبير أبى إلا الإسلام واستسلم لعذاب عمه
فحبسه في حجرة مظلمة وشد وثاقه ودخن عليه حتى ملأ الحجرة دخانا وضاقت
أنفاس الزبير فظن أنه ميت لا محالة وصبر لقضاء الله وأبى أن يرتد عن دينه
فزاده عمه عذابا
إلا أن إيذاء قريش للمستضعفين والعبيد كان ولاشك أشد من إيذاء أبنائها
فقست عليهم وتجردت من إنسانيتها في تعذيبهم وكانت قلوبهم كالحجارة أو أشد
قسوة، فبلال بن رباح رضى الله عنه يحرم الطعام والشراب ويجرد من ملابسه في
أشد ساعات النهار حرارة ويطرح على ظهره فوق الرمال الحارة التي لو وضعت
فوقها قطعة اللحم لنضجت، ثم يوضع فوق صدره صخرة عظيمة ويقول له سيدة أمية
بن خلف الجمحي ستظل هكذا أو تكفر بمحمد فلا يفتأ يردد أحد أحد
وآل ياسر (عمار وزوجته وابنهما ياسر) رضى الله عنهم يخرب بيتهم ويحرق
وتوضع الأغلال في أيديهم وأرجلهم ويضربون بالسياط وعندما تشتعل رمال
الصحراء يخرجون إليها مقيدين، وينخسون بالخناجر لإجبارهم على الجري على
هذه الرمال الملتهبة فيتساقطون من الإعياء ويضحك منهم المشركون ساخرين
وكان أبو جهل يتفنن في تعذيبهم فكان يحمي الحديد في النار ويكوي به جنوبهم
وظهورهم ثم يملأ حوضاً من الماء ويغرقهم بعد حرقهم بالنار ويترددون بين
الحرق والغرق طيلة النهار ومر بهم رسول الله صلى الله وعليه وسلم وهم على
هذه الحالة فقال لهم "صبراً آل ياسر ابشروا فإن موعدكم الجنة، و ماتت سمية
بحربة أبي جهل وكانت أول شهيدة في الإسلام، أما ياسر فقد مات تحت التعذيب
وخباب بن الأرت رضى لله عنه كان حدادا فلما علمت سيدته (أم أنمار) بإسلامه
كانت تربطه في عمود من البيت وتشعل الكور وتحمى الحديد وتجرد خباب من
ثيابه وتكويه بالنار مرة بعد أخرى حتى يغشي عليه من التعذيب فتنتظر حتى
يفيق ثم تعاود التعذيب، وما هذه إلا نماذج لما كان يلاقيه كافة المسلمين
من تعذيب واضطهاد