شاء ربك أن ينقلب السحر على الساحر.
إذ ما أن أسدل الستار على مشهد المحرقة في غزة حتى توالت المفاجآت التي
ردت الروح للضحايا، وفضحت مخططات التآمر على المقاومة.
(1)
بعدما
انتهت يوم الاثنين الماضي (3/3) المرحلة الأولى من حملة الشتاء الساخن
التي شنها "الإسرائيليون" على غزة، كانت المفاجأة أن التعليقات والتحليلات
التي نشرتها الصحف العبرية أعربت عن الشعور بخيبة الأمل لأن العملية لم
تحقق هدفها في إيقاف إطلاق الصواريخ على المستوطنات الحدودية، كما أنها لم
تنجح في إسقاط النظام القائم في القطاع، بالتالي فإنها كانت حفلاً دموياً
بأكثر مما كانت إنجازاً عسكرياً. وكان الدليل الماثل في أذهان الجميع أن
إطلاق الصواريخ استمر بمعدل تراوح بين 40 و50 صاروخاً يومياً أثناء الحملة
وبعدها. وهو ما دعا أحد الكتاب "الإسرائيليين" أمير تسوريا إلى القول بأن
العملية فشلت بكل المقاييس. وعلى حد تعبيره فإن القوات "الإسرائيلية" "كما
دخلت خرجت". أضاف في هذا الصدد قوله إن التجربة أثبتت أن الجيش
"الإسرائيلي" الذي اعتاد على القيام بضربات سريعة غير مستعد لخوض قتال
طويل في المناطق المأهولة بالسكان. في نفس اليوم (الأربعاء 5/ 3) قال بن
كاسبيت في صحيفة "معاريف" "إن المقاومة الفلسطينية عرفت كيف تتعامل مع
السلاح "الإسرائيلي"، ومن ثم أصبحت قادرة على استنزاف الجيش "الإسرائيلي"
من خلال المناورة وإملاء قواعد اللعبة عليه.
الصحافي كوبي
نيفالى تحدث عن فشل الجيش في تحقيق الأهداف الأربعة التي حددها وزير الحرب
إيهود باراك والتي حصرها في إسكات صواريخ القسام، ووقف تهريب السلاح عبر
محور فلاديلفيا، وإضعاف حكم حماس وإسقاطه، واستكمال فك الارتباط مع قطاع
غزة. وقال إن هذه كلها أهداف حيوية، لكن ثبت أنه لا يمكن تحقيقها على أرض
الواقع. وهو يسخر من باراك، قال إن فك الارتباط مع غزة لا يتم إلا بعملية
بتر عميق تقطع قطاع غزة من قلب الكرة الأرضية، ثم تضعه في جزيرة تعبر قناة
السويس نحو المحيط الهندي لغرسها في مكان بين الهند وتايلاند.
صحيفة
"يديعوت أحرونوت" نقلت عن البروفيسور مناحيم كلاين من جامعة بار ايلان في
تل أبيب انتقاده لغياب التفكير الاستراتيجي في حملة الجيش على القطاع،
وقوله إن "إسرائيل" تتصرف كعملاق أعمى يضرب بقوة من دون هدف سياسي. وكانت
نتيجة ذلك أنها لم توقف إطلاق الصواريخ في حين أضعفت محمود عباس رئيس
السلطة الفلسطينية بشكل كبير، فضلاً عن أنها أثبتت أنها لا تفهم
الفلسطينيين.
إيمانويل سيفان المهتمة بقضايا الاستشراق
قالت في حوار بثته القناة العاشرة إن حسم مسالة الصواريخ عسكرياً غير
ممكن، وإنه لا بديل عن التفاهم المباشر مع حركة حماس لإيقافها. وهذه
الفكرة أيدها رئيس "الشاباك" السابق عامي إيلون، ويولي تامير وزيرة
التعليم في الحكومة الحالية التي قالت إن الوضع في جنوب البلاد أصبح لا
يطاق نتيجة استمرار إطلاق الصواريخ، الأمر الذي يبرز أهمية التفاهم
والحوار المباشر مع حماس لإيقافها.
(2)
لأن حفلة الدم
التي تمت في القطاع خلفت 120 شهيداً فلسطينياً، وأصابت أكثر من 350
جريحاً، فقد كان الرد في القدس مفاجأة أخرى خلفت 8 قتلى "إسرائيليين" و35
جريحاً. وتلك كانت صدمة ل"إسرائيل" التي استسلمت لغرور القوة. ولم تكن
عملية القدس هي التعبير الوحيد عن الثأر الفلسطيني؛ لأنه في صبيحة اليوم
الذي تمت فيه العملية (الخميس 6/ 3) ومن أعماق بحر الدم الذي أغرقت فيه
غزة خرجت مجموعة من شباب حركة الجهاد لتنصب كميناً لدورية "إسرائيلية"،
أسفر عن قتل جندي وجرح ثلاثة، الأمر الذي أدى إلى تدخل الطيران
"الإسرائيلي" واستخدامه الصواريخ التي قتلت المجاهدين الأربعة عملية القدس
استأثرت بالاهتمام الأكبر لأسباب عدة. منها أنها وقعت في قلب "إسرائيل"
وأن ضحاياها عددهم كبير نسبياً، ولأنها الأولى من نوعها منذ أربع سنوات،
ولأن منفذها علاء هاشم أبودهيم (25 عاماً) استطاع أن يخترق عشرات الحواجز
العسكرية بسلاحه وذخيرته، وأن يدخل إلى مقر المعهد الديني والعسكري
مستفيداً من معلوماته التي حصلها منذ عمل سائقاً بها.
العملية
أحدثت صدمة في الدوائر السياسية والأمنية "الإسرائيلية" التي شغلت
بالإجابة عن سؤالين هما: ما الجهة التي وقفت وراء الفاعل وكيف وصل إلى
هدفه (معهد مركاز هراف). حتى كتابة هذه السطور لم يتم تحديد الجهة التي
تبنت العملية، وفي حين تضاربت الأنباء حول مسؤولية حركة حماس عنها، فبعد
إعلان ذلك، نفى الخبر المتحدث باسم جناحها العسكري (كتائب القسام). في وقت
لاحق ذكر موقع "يديعوت أحرونوت" الإنجليزي يوم الجمعة 7/3 أن الشبهات تدور
حول دور لحزب الله اللبناني في العملية وأشار تقريرها إلى أحد الفلسطينيين
اسمه (محمد شدا) معتبراً أنه قد يكون حلقة الوصل بين الحزب وبين منفذ
العملية علاء أبودهيم الذي قدرت قيمة السلاح والذخيرة التي كانت معه
بحوالي 5500 دولار وهو مبلغ يتعذر أن يوفره سائق شاب من دخله الخاص.
يوم
الخميس 6/3 بث موقع قناة الجزيرة نت تقريراً من غزة حول الدراسات
"الإسرائيلية" التي أجريت حول خبرة الفدائيين الفلسطينيين في عملية
التمويه والتخفي، التي مكنتهم من الوصول إلى أهدافهم واختراق سلسلة
الحواجز واحتياطات الجيش وأجهزته الأمنية، فبطل العملية الأخيرة تنكر في
زي هيئة وطلاب المعهد الديني، ومنفذ عملية فندق بارك في مدينة نتانيا
الشهيد عبدالباسط عودة ارتدى ملابس نسائية كاملة، من تلك التي تميز نساء
المستوطنين. والشهيد سعيد الحوتري الذي نفذ عملية "الدولفيناريوم" في تل
أبيب ارتدى ملابس شباب الفرق الموسيقية، وحمل حزامه الناسف في داخل جيتار
وهمي حمله على كتفه.
وفي تقرير بثته وكالة الأنباء
الفرنسية حول الموضوع، ذكرت أن القسم الاجتماعي التابع للشرطة
"الإسرائيلية" قام بتوزيع نشرة على "الإسرائيليين" لتنبيههم إلى معالم
الفدائي التي يتعين ملاحظتها، ومنها أنه عادة ما يصبغ شعره باللون الأشقر،
ويضع حلقاً في أذنه، ويرتدي الزي العسكري، أو القبعة الدينية اليهودية وهو
ما حدث في حالة هاشم أبو دهيم منفذ عملية القدس الأخيرة.
إنهم
في "إسرائيل" يبذلون جهدهم لطرح مختلف الأسئلة التي تتعلق بالعمليات
الاستشهادية، لكنهم لا يتطرقون إلى سؤال واحد هو: لماذا يقدم عليها
الفلسطينيون. ويكتفون في ذلك بتسويق مقولة ساذجة وغبية، اختزلت دوافعهم في
أنهم "إرهابيون"!
(3)
في 19/6/2007 كتبت مقالاً تحت
عنوان "محاولة لفهم ما جرى في غزة"، طرحت في مستهله السؤال التالي: هل
الذي حدث في غزة انقلاب أم أنه إجهاض لانقلاب؟ ومن خلاله عرضت لمجموعة من
الوثائق والشهادات التي دلت على أن الحوادث التي تلاحقت في القطاع، خصوصاً
ما تعلق منها بإشاعة الفلتان الأمني، لم تكن مصادفات أو تفاعلات وقتية،
ولكن التدبير والتخطيط السابقين لها كانا واضحين. وقتذاك، قبل أكثر من
ثمانية أشهر، تشكك البعض في معلومات المقال، استسهل البعض تصنيفها
بحسبانها تعبيراً عن موقف "أيديولوجي".
المفاجأة أطلقتها
قبل أيام مجلة "فانيتي فير" الأمريكية الشهرية، التي نشرت في عدد إبريل/
نيسان تقريراً إضافياً أجاب بصراحة عن السؤال الذي ألقيته قبل ثمانية
أشهر، ولأن كاتب التقرير "ديفيد روز" يتعذر اتهامه بالتعاطف الأيديولوجي،
ناهيك عن أن العكس هو الصحيح، فربما كانت شهادته مبرأة من الشبهات، الأمر
الذي يدعونا إلى تلخيصها في الظرف الراهن؛ لأنها تسلط أضواء قوية على
الجانب المسكوت عليه في الصراع الدائر على أرض فلسطين.
من أبرز النقاط التي أوردها الكاتب في تقريره المثير الذي جاء في 8000 كلمة ما يلي:
-
أنه حصل على وثائق تكشف عن وجود خطة سرية وافق عليها الرئيس بوش، وتولى
تنفيذها كل من كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية ونائب مستشار الأمن القومي
"اليوت ابرامز"، لإثارة حرب أهلية فلسطينية، تؤدي إلى إفشال حكومة حركة
المقاومة الإسلامية وإسقاطها، وقد رفضت وزارة الخارجية الأمريكية التعليق
على تلك الوثائق.
- أن الطرف الفلسطيني الذي تم التعويل
عليه في تنفيذ الخطة هو محمد دحلان الذي تم تزويد جهاز الأمن الوقائي
التابع له بأسلحة جديدة بناءً على طلب أمريكي، بحيث تتولى عناصر ذلك
الجهاز - الذي طلبت واشنطن من أربع دول عربية تدريبهم لرفع كفاءتهم -
إشاعة الفوضى في القطاع وتفجير الموقف الداخلي في مواجهة الحكومة.
-
أن دحلان عمل عن قرب مع مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات
المركزية، وأقام علاقات دافئة مازالت مستمرة إلى الآن مع مديرها السابق
جورج تينيت، الذي عينه كلينتون في منصبه، وظل فيه بعد ولاية بوش حتى عام
2004، والتقى الرئيس الأمريكي في ثلاث مناسبات على الأقل، وقد امتدحه بوش
علناً في عام 2003، قائلاً: إنه قائد جيد وصارم، وقال مسؤولون أمريكيون
سراً أن الرئيس وصف دحلان قائلاً: هذا رجلنا.
- أن ديفيد
وورمسير الذي كان كبير مستشاري نائب الرئيس ديك تشيني واستقال قبل أشهر
اتهم إدارة بوش بالمشاركة في حرب قذرة من أجل تقديم انتصار لوضع فاسد كان
قائماً، وهو يؤكد أن حماس لم تكن لديها نية السيطرة على غزة، حتى أجبرتها
قيادة فتح على ذلك. كما يؤكد على أن ما جرى "لم يكن انقلاباً من جانب
حماس، وإنما كان انقلاباً من حركة فتح تم إجهاضه قبل أن يحدث".
-
أن وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس بعثت بأكثر من رسالة وإنذار
للرئيس محمود عباس تدعوه صراحة إلى إعطاء مهلة لحكومة حماس لتقبل بمبادئ
الرباعية الدولية، وإذا لم توافق على ذلك خلال المهلة، فيجب أن تعلن حالة
الطوارئ، وتشكل حكومة طوارئ تلتزم بموقف الرباعية.. وبقية القصة معروفة
بعد ذلك.
(4)
ما الذي تعنيه هذه المفاجآت المتلاحقة؟
إجابتي أنها تعني أن الصراع الذي انفجر عام 1948 لم ينته، ولا يزال
مفتوحاً على كل الاحتمالات، وأن "إسرائيل" مستعدة لأن تذهب إلى أبعد مدى
يخطر على البال لكسر إرادة الفلسطينيين وتركيعهم. وفي الوقت ذاته فإنه
يعني أيضاً أن الإرادة الفلسطينية الحديدية ما زالت عصية على الانكسار،
ومصرة على التحدي، كما أنها لن تعدم حيلة في نقل الوجع إلى "إسرائيل"، رغم
كل احتياطاتها وتحصيناتها، وهذا الإرادة أكبر من حماس وفتح، وأكبر من
القطاع والضفة، لأنها كامنة في ضمير الشعب الفلسطيني، الذي يرفض التنازل
عن حقه وحلمه. أخيراً فإنها تعني أن الولايات المتحدة الأمريكية موجودة في
قلب الصراع، وضد الحق الفلسطيني، في اصطفاف كامل مع الموقف "الإسرائيلي"،
بالتالي فإن كل تدخل لها يظل محكوماً بطبيعة تلك العلاقة، وكل مراهنة
عليها أو حتى إحسان للظن بها هو خداع للنفس وتعلق بالسراب.
أدري
أن هذا الكلام ليس جديداً. لكن المشكلة أن ذاكرتنا السياسية أصابها الوهن
الذي أصاب أصحاب قدراتنا السياسية والعسكرية. لذلك من المهم أن نستعيده
ونذكر به بين الحين والآخر، علّ الذكرى تنفع المؤمنين