أحمد زكي .. هارب من أرض الخوف "ما زلت أحن إلى حياتي في أرض الخوف، لكنني لا أملك القدرة على أن أعود إليها"
لعلها الجملة التى ظل أحمد زكى يرددها وهو ممدد على سريره بمستشفى دار الفؤاد وحتى رحيله صباح الأحد 27 مارس 2005.
لم يسمعه أحد يتكلم، لكن طرقات المستشفى امتلأت بالجملة التي قالها "آدم" بطل فيلم أرض الخوف، ذلك الضابط المزروع بين تجار المخدرات عشرين عاما، تقلبت خلالها شخصيته وتقلب معها صوته الذي كان يتخلل الأحداث من خارج الكادر، ليؤكد عمق الفيلم الذي أجمع النقاد على أنه لم يكن ممكنا أن يتحقق فنيا إلا بعبقرية أداء أحمد زكي.
لم يكن غريباً حنينه الدائم إلى أرض الخوف، فتللك هى الدنيا كما عاشها وأراد الإفلات منها بالإقامة شبه الدائمة بأحد الفنادق الفاخرة، رغم امتلاكه شقة في أحد أرقى أحياء القاهرة.
دنيا لازمه فيها إحساس غريب بالخوف والاغتراب وهو الذى انتزع الموت أباه بعد عام واحد من مجيئه إلى الدنيا عام 1949، وتزوجت أمه، ليقضي سنواته الأولى متنقلا بين بيوت العائلة.
تقمص الشخصيةأحمد زكي في أحد أدواره ومنذ طفولته كان يراقب العالم من ركنه المنزوي، وتتراكم بداخله أحاسيس مختلفة ومتصارعة لم يجد مخرجا لها إلا عن طريق التمثيل. ففي مدرسته الابتدائية كان رئيسا لفريق التمثيل، ولازمه عشق التمثيل في المرحلة الإعدادية، واشترك في مهرجان المدارس الثانوية، ونال جائزة أفضل ممثل على مستوى مدارس الجمهورية.
وما إن حصل على الثانوية العامة من مدرسة الزقازيق الثانوية، التحق أحمد زكي بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وتخرج عام 1973 بتقدير ممتاز. وقضى فترة الدراسة متجولا بين مقاهي القاهرة ومنتدياتها الثقافية منتظرا الفرصة ليثبت أنه يجيد التمثيل، وكانت البداية في مسرحية "هالو شلبي" وعدد من الأدوار الصغيرة التي قادته فيما بعد إلى عالم النجومية.
وأهم ما تعلمه أحمد زكي في المعهد ومن أدواره الصغيرة كان ما أدركه منذ صغره أن الحياة هي أهم كتاب يتعلم منه الممثل، فلم تمر عليه شخصية إلا وحاول أن يفهمها، وأن يختزن أحاسيسها ورغباتها، جاعلا هدفه الإنسان بكل متناقضاته، عبر تجسيد أدوار الجندي، والميكانيكي، والحلاق، والضابط، والسجين، واللص، والهارب، وتاجر المخدرات، والمحامي، والطبيب، والمريض، والمدمن، والصعلوك، والوزير، والبواب، والرئيس، ورجل الأعمال، والعامل، والصحفي، والمصور، والمهندس، والتاجر، والدجال، والمثقف، والفنان، والجاهل، وكلها شخصيات أداها على الشاشة خلال 58 فيلما و5 مسرحيات و4 مسلسلات، بشكل أنسى من شاهدوها أنهم يشاهدون أحمد زكي؛ حيث كان يخرج من جلده لتحل محله الشخصية الدرامية بكل مواصفاتها وأبعادها.
فالصعيدي لا بد أن يكون مثل أحمد زكي في فيلم "البيه البواب"، وضابط المباحث لا بد أن يكون هو هشام في "زوجة رجل مهم" بنظراته الجريئة المقتحمة، بالإيماءة والنظرة، بالهمسة والتنهيدة، بالضحكة والبسمة، بعلو وخفوت وحدة الصوت. وعسكري الأمن المركزي لا بد أن يكون "أحمد سبع الليل" الذي رأيناه في "البريء" بمشيته الغريبة، المهرولة، وتهدل كتفيه، بل وقفاه العريض(!!) والمحامي لا بد أن يكون "مصطفى خلف" في "ضد الحكومة"، والمحب الذي لا يجد مظلة اجتماعية وأخلاقية يقبل تحتها حبيبته لا بد أن يكون مثله في "الحب فوق هضبة الهرم".
وحتى عندما تتشابه الشخصيات التي يؤديها فإنه يعرف كيف يجعلها تختلف، فـ"أحمد سبع الليل"، القروي الساذج المسالم يختلف عن "عبد السميع البواب"، والضابط "هشام" في "زوجة رجل مهم" لا يتصرف أو يتحرك كالضابط في "الباشا"، و"مصطفى خلف" المحامي في "ضد الحكومة" لا يشبه المحامي في "التخشيبة".
وأهم ما ميز معظم تلك الشخصيات أنها كانت رمادية، ليست بيضاء، ولا سوداء، ليست خيرة ولا شريرة تماما.
وفي أفلامه الأخرى مثل "الراقصة والطبال" و... و... و"الإمبراطور"، كان يكفي أن نرى "زينهم جاد الحق" بطل الإمبراطور وهو يتعرض للتعذيب خلال التحقيق معه، لإرغامه على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها، يكفي أن نرى المجرم المحترف وهو يجسد بعضلات وجهه وحدها، الألم والمراوغة، والإصرار والضعف، والقوة، في لحظة واحدة، دون كلمة أو إيماءة من يديه أو جسده.
عودة إلى البدايات
وإذا عدنا إلى البدايات لنرى الشاب الصعيدي في "شفيقة ومتولي" الذي أخذته السلطات للعمل بالسخرة في حفر قناة السويس، فرغم أنه ظل في خلفية الأحداث فإن غيابه في لحظات كثيرة عن الشاشة كان يجعلك تتأكد من أن وجوده هو الضمان المفقود حتى لا تسقط شقيقته "شفيقة" في هوة الضياع.. وفى "إسكندرية ليه" تشعر أن هذا الشاب إبراهيم الذي يظهر في لحظات خاطفة من الفيلم يدفع وحده ثمن فساد المجتمع كله بأن يجد نفسه وراء قضبان السجن، وليس هناك من يدافع عنه إلا المحامي العجوز الذي لا يملك إلا كلمات عاجزة بائسة.
وعلى صغر مساحة الدور في هذين الفيلمين وفي العديد من الأعمال الأخرى فإنها كانت خطوات مهمة مهدت الطريق لنجم كان ميلاده الحقيقي مع مولد السينما الشابة الجديدة، خلال فترة الثمانينيات، حين كان مخرجو وكتاب السينما المصرية يبحثون عن "الأبطال" بين الملايين الذي يعيشون على هامش المجتمع، وهم غارقون في بحر الحياة، يكدحون وراء لقمة العيش، تفوح من جلودهم رائحة العرق، وتخرج من أفواههم أكثر الألفاظ خشونة، وليس لديهم الوقت أو المال للأناقة واللباقة.
أحلامه فاقت التوقعاتأحمد زكي في فيلم أنور السادات
ومع كل تلك الرحلة الشاقة كان الإحساس بالخوف والاغتراب يلازمه، لدرجة جعلته مقتنعا تماما بأن الفنان بلا خوف أو توتر، يسير في طريق غير آمن!
كان يخاف حين لا يجد حلما جديدا يتقاسم بكارته مع الجمهور، وكان يرعبه أن تمر الأيام بسرعة دون أن ينجز مشروعا يولد أمامه في سنوات تكون الحياة خلالها تلملم أوراقها وهو لا يدري.
وحين كانت أحلامه تتجاوز التوقعات، كانت تفوق المتوقع حين يحققها، وليس بعيدا عن الأذهان حالة الدهشة التي استقبل بها كثيرون حلمه بتجسيد جمال عبد الناصر والسادات، وحالة الانبهار التي استقبل بها النقاد قبل المشاهدين الفيلمين "ناصر 56"، و"أيام السادات"، وقبلهما كان حلمه بتجسيد شخصية طه حسين، وحققه بشكل أعاد شخصية وصورة عميد الأدب العربي إلى الحياة. ولم يستسلم صاحب الموهبة الاستثنائية للرقاد إلا بعد أن انتهى من تصوير معظم مشاهده في فيلم حليم الذي يتناول حياة المطرب الأكثر جماهيرية في عالمنا العربي، ذلك الحلم الذي أرهقه التفكير في تحقيقه كثيرا.
هكذا، ظل أحمد زكي يبحث عن الأدوار المتناقضة، وما إن يجدها حتى يمسك بجوهر الشخصية ويجسدها بجسده وصوته لتراها على الشاشة من لحم ودم، قد تحبها أو تكرهها، لكنك تفهم دوافعها. وفي كل الأحوال تنسى تماما أن هناك ما يربطها بأحمد زكي غير مجرد تشابهات طفيفة في الملامح الخارجية. يمكننا إذن أن نفسر عدم تسرب أي ذرة كراهية لقلوب المشاهدين تجاه صاحب الموهبة الاستثنائية، حتى وهم يشاهدونه يؤدي شخصية يكرهونها إلى حد الاختناق!
الجمهور العاشقأحمد زكي بين جمهوره
وفي الإطار نفسه يمكن أيضا تفسير هذا الاهتمام غير العادي بحالة نجم مصر الكبير فور الإعلان عن تعرضه لأزمة صحية استدعت سفره إلى فرنسا، وحالة الحزن التي استقبل بها ملايين العرب خبر إصابته بالسرطان، ثم خبر وفاته.
في الأيام العشرة الأولى من شهر رمضان الماضي وصل إلى غرفته في الفندق الذي كان يقيم به النجم الكبير 15 ألف رسالة تهنئة، و250 سبحة، و80 سجادة صلاة، و400 مصحف شريف، و200 لتر ماء زمزم، و54 علبة بخور عود، و600 عود سواك.
وطبقا للتقرير الصادر عن منظومة FCS الإلكترونية التي تدير كافة أعمال النزلاء في الفندق آليا، تلقى أحمد زكي 15 ألف رسالة تهنئة بقدوم شهر رمضان، منها 8 آلاف تهنئة إلكترونية على بريده الإلكتروني في الفندق من أنحاء العالم العربي، ومن جاليات عربية في نيجيريا واليونان وجنوب أفريقيا وتايلاند وأوزبكستان وطاجيكستان والهند وهونج كونج وماليزيا والبرازيل والأرجنتين.
كما تلقى الفنان الراحل عشرات الآلاف من باقات الزهور وملايين الرسائل التي حملت خليطا من الدعوات بالشفاء، ووصفات علاج بالطب التقليدي والشعبي، وقصائد شعر، واطمئنان على صحته.
وإذا كان يمكننا القطع بأن هذا الاهتمام لم ينله أي ممثل عربي من قبل، فلا شك أنه تجسيد لمشاعر الحب لنجم آمن بأن الفنان حين يفكر في رصيده وما يملك، تتراجع موهبته.. لقد شغله حبه لفنه عن هوس جمع المال، فكان رصيده في البنوك يقترب من الصفر، ورصيده في قلوب من أحبوه لا تساويه كنوز الدنيا.
أحمد زكي.. ممثل البسطاء في بورصة الأحلام
[b]أحمد زكي في حالة من الصمت
[/b]لا تكمن قيمة الفنان الراحل الكبير أحمد زكي الذي وافته المنية صباح الأحد 27 مارس 2005، في أدائه لأدوار شخصيات تاريخية معاصرة كان لها تأثيرها القوي على المجتمع المصري مثل "طه حسين"، و"السادات"، و"عبد الناصر"، لكنها تمتد إلى أدواره على مدى أكثر من 30 عاما، والتي شكلت ملامح من اعتبرته جموع المصريين واحدا منهم، حيث جسد في مجمل أعماله نماذج البسطاء في أفراحهم القليلة وأتراحهم الكثيرة.
ولعل ملامح أحمد زكي ساعدته في ذلك كثيرا، حيث ذلك الفتى الأسمر ذو الشعر المجعد، حاد النظرة، الذي تميزه نحافة نتجت عن فقر وسوء تغذية في الصغر، وتكسو ملامحه أحزان عمر يجرها معه أينما ذهب.. فقد نشأ أحمد زكي ابن قرية الحسينية بمحافظة الشرقية (في دلتا مصر) المولود في 18-11-1949 يتيم الأب، ورباه جده بعد زواج أمه التي لم يرها إلا في سن السابعة.. وبين بيوت الأقارب عاش غربته الخاصة وتعلم التأمل من الصمت الذي فرضته عليه غربته، فاختار أدواره بعناية خاصة، وعاشها وعايشته بشكل جعل انبهار الجمهور والنقاد به لا ينقطع.
حصل الفنان الراحل على دبلوم مهني يؤهله للعمل في ميكانيكا السيارات، وأثناء دراسته الثانوية استطاع أن يعتلي خشبة المسرح ليغادر صمته بالانطلاق في الكلام والصراخ، وأخرج عددا من المسرحيات، ونصحه البعض بالالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة ليتخرج فيه بامتياز عام 1972، وهو العام نفسه الذي شارك فيه بمسرحية "مدرسة المشاغبين" الشهيرة مع كل من "عادل إمام" و"سعيد صالح" و"يونس شلبي" و"هادي الجيار" الذي كان زميلا له في نفس دفعة الدراسة، وكانت هذه المسرحية الهزيلة بمثابة نقطة الانطلاق لبدء نجومية معظم من شارك فيها.
صدمة البداية
رشح أحمد زكي الذي حمل ثقته في نفسه معه منذ البداية لبطولة فيلم "الكرنك" الذي بدأ به مؤلفه وصانعوه حملة للهجوم على الثورة المصرية، وكانت البطلة أمامه "سعاد حسني" التي كانت في قمة نجوميتها في ذلك الوقت. وبعد توقيع عقد الفيلم وفي أول أيام التصوير اكتشف أن أكبر موزع للأفلام في العالم العربي حينها "رمسيس نجيب" قرر استبعاده، فصدم وتحول من يومها إلى كتلة من الأعصاب المتوترة بشكل مستمر، وأقسم يومها أن كل من استبعده من هذا الفيلم سيندم.
وكانت الفرصة التالية هي "شفيقة ومتولي" مع سعاد حسني أيضا، وانطلق أحمد زكي ليقدم مع المخرج "محمد خان" مجموعة من أهم أفلامهما معا بدأت بـ"موعد على العشاء" مرورا بـ"زوجة رجل مهم" الذي قدم فيه شخصية ضابط أمن دولة مصري تجاوزته المرحلة، وكانت الحرفية الشديدة التي قدمها بها بمثابة برق في ظلمة الإهمال الذي يعاني منه الأداء التمثيلي في ذلك الوقت، وأخيرا قدما معا فيلم "السادات" الذي أثار لغطا كبيرا قبل تقديمه، باعتبار السادات نفسه "رئيسا وشخصية" يثير الجدل حوله من كل الاتجاهات، ثم أثار الفيلم نفسه جدلا حول مستواه الفني الذي جاء مخيبا للآمال.
وإذا كان أحمد زكي قد عبر عن توجهاته السياسية في حياة السادات، وأكد اختلافه معه وطالبه بتبرير اعتقال 1500 مفكر مصري في ليلة واحدة، فإنه وبعد رحيل السادات بسنوات طويلة خاض معركة مشابهة ليقنع الآخرين بأنه "مشخصاتي" وتقديمه للسادات لا يعني اتفاقه معه، ولكن يعني أن شخصيته ثرية بما يكفي لإغراء الممثل بتقديمها.
[b]البريء.. ضد الحكومة[/b]
[b]وتألق أحمد زكي مع المخرج عاطف الطيب بشكل مدهش حيث قدما معا أفلاما منها "ضد الحكومة" و"الهروب"، وبينما قدم في الأول شخصية محام منحرف لامسته نار الانحراف فاستقام ثم ثار على الفساد، وقام برفع دعوى قضائية على الحكومة بأكملها بسبب حادث أصيب خلاله عدد من الفتيان بينهم ابن له لم يكن يعلم بوجوده.. ففي فيلمه "الهروب" قدم دورا لمنحرف من نوع آخر، حيث يدافع عن شرفه خارج إطار القانون بعدما خانته زوجته فقرر قتلها وقتل عشيقها.
أما أبرز أفلامه مع عاطف الطيب فكان "البريء" الذي أثار عاصفة من الأزمات قبل وأثناء عرضه، فقد اعترضت الرقابة عليه، وتشكلت لجنة من ثلاثة وزراء للتصريح به، وبالفعل تم تغيير نهايته، وإن تسربت بعض النسخ بالنهاية التي صنعها مخرجه وبطله.
وفيلم "البريء" يحكي عن جندي أمن مركزي شديد البساطة والبراءة والجهل يلقن بعد التحاقه بالتجنيد الإجباري ما يفيد أن كل المعتقلين أعداء للوطن، وبالتدريج يفهم أن هؤلاء هم ضمير الوطن وليسوا أعداءه، فينقلب ضد من لقنوه بعد فوات الأوان وينتهي الفيلم بطلقات كثيفة من مدفعه الرشاش في جسد قائده، وهي النهاية التي اعترضت عليها الرقابة، فتم الاكتفاء بصرخة مدوية من الجندي لدى استقبال المعتقل الذي يقوم بحراسته دفعة جديدة من "أعداء الوطن".
ولعل الخطورة الحقيقية في هذا الفيلم تكمن في أن القصة لم تكن إلا إسقاطا على واقع الشعب المصري في الفترة التي أبرمت خلالها معاهدة كامب ديفيد، وكيف أفاق على كارثة تضاؤل الوطن وتحوله إلى مسمى آخر سواه.