موضوع الكدبه البيضه
س: وعدت صديقي أن أزوره في يوم معين ، فلما جاء ذلك اليوم شغلني بعض المشاغل العائلية ، فلم أقم بزيارته ، فلما قابلته استحييت منه ، فاعتذرت بأن ضيوفًا قدموا علي فجأة ، فلم أتمكن من مغادرة المنزل .
فهل هذا اللون من الكذب حرام ؟ مع أنه لا يضر صاحبى ولا يضرني ، وإنما خلصني من مأزق حرج بلطف ، ولهذا يسمونه " الكذب الأبيض "؟ وليس مثل الكذب في البيع والمعاملة ، والذي يترتب عليه غش وتدليس ، أو الكذب في الشهادة الذي يترتب عليه ضياع حقوق ، وما شابه ذلك من الكذب الذي لا يشك إنسان في تحريمه دينًا .
إنني وغيري نتورط كثيرًا في هذا النوع من الكذب الذي يكاد يطبع حياة الناس اليومية ، حتى أصبح من سمات العصر .
ولهذا أود أن أعرف موقف الدين من هذه البلوى ، عسى أن نجد لنا رخصة نستريح إليها ، ونعتمد عليها . وإلا فيا ويلنا وويل أهل عصرنا كافة إلا من رحم ربك . وقليل ما هم .
لذلك بحثت عن هذا الموضوع فى مواقع العلماء حتى أطمأن ووجدت هذه الإجابه وحبيت أنقلها لمنتدى الإمتياز والتميز لعلنا نستفيدوتلك هى الإجابه ................
ج : إن انتظار المستفتي رخصة يستريح إليها من عالم ديني يثق به أمر لا حرج فيه شرعًا ، وبحث العالم المفتي عن رخصة لسائله تريحه من الحيرة والقلق والشعور بالإثم ، أمر لا بأس به أيضًا ، وقد قال إمام الفقه والحديث والورع ، سفيان الثوري رحمه الله : إنما العلم الرخصة من ثقة ، أما التشديد فيحسنه كل أحد .
ولكن ليس كل ما تطلب الرخصة فيه يكون في الاستطاعة الحصول عليها .
ومن ثم لا أجد هنا متسعًا للرخصة في الكذب وإن سماه الناس أبيض ، إلا في حدود ضيقة سأبينها بعد .
فالإسلام يحذر من الكذب بوجه عام ، ويعده من خصال الكفر أو النفاق …ففي القرآن نقرأ : (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ) النحل :105.
وفي السنة : ( آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر )(رواه الشيخان) وفي رواية لمسلم : ( وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ) .
وفي حديث آخر للشيخين : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا أؤتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ).
ولهذا جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا : ( الكذب مجانب الإيمان ) (رواه البيهقي وصحح الموقوف .)
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب )(رواه البزار وأبو يعلى ورواته رواة الصحيح والدارقطني مرفوعًا وموقوفًا ، وقال : الموقوف أشبه بالصواب .)
وفي حديث مرسل رواه مالك : قيل يا رسول الله ، أيكون المؤمن جبانًا ؟ قال : ( نعم ). قيل له : أيكون المؤمن بخيلا ؟ قال نعم ) . قيل له : أيكون المؤمن كذابًا ؟ قال : ( لا ) ( رواه مالك مرسلا عن صفوان بن سليم .)
ولهذا قالت عائشة : ( ما كان من خُلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب )(رواه أحمد والبزار وابن حبان والحاكم وصححاه )
وهذا كله يدلنا على مدى نفور الإسلام من الكذب . وتربية أبنائه على التطهر منه ، سواء ظهر من ورائه ضرر مباشر أم لا . يكفي أنه كذب ، وإخبار بغير الواقع ، وتشبه بأهل النفاق .
وليس من اللازم ألا يلتزم الناس الصدق إلا إذا جر عليهم منفعة ، ولا يجتنبوا الكذب إلا إذا جلب عليهم مضرة ، فالتمسك بالفضيلة واجب ، وإن كان وراءها بعض الضرر الفردي المباشر واتقاء الرذيلة واجب وإن درت بعض النفع الآني المحدود .
وإذا كان الإنسان يكره أن يكذب عليه غيره، ويخدعه باعتذارات زائفة ، وتعللات باطلة ، فواجبه أن يكره من نفسه الكذب على الآخرين، على قاعدة : عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به .
على أن من أكبر وجوه الضرر في الكذب أن يعتاده اللسان ، فلا يستطيع التحرر منه ، وهذا هو المشاهد الملموس ، الذي عبر عنه الشاعر قديمًا فقال :
عوِّد لسانك قول الصدق وارض به إن اللسان لما عوَّدت معتاد
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحذرنا من ولوج هذا الباب الذي ينتهي بصاحبه بعد اعتياد دخوله إلى أن يكتب عند الله من الكذابين . فيقول : ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا ، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند الله كذابًا ) (رواه الشيخان وأبو داود والترمذي وصححه واللفظ له)
ولم أجد من وضَّح هذا الجانب ، ووفاه حقه من البحث والشرح مثل الإمام أبي حامد الغزالي في موسوعته الإسلامية " إحياء علوم الدين " ويحسن بي أن أنقل هنا مقتطفات من حديثه بلفظه ، لما فيها من التحقيق والبيان حيث يقول :
" اعلم أن الكذب ليس حرامًا لعينه ، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره ، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه ، فيكون جاهلا ، وقد يتعلق به ضرر غيره ، ورب جهل فيه منفعة ومصلحة ، فالكذب محصل لذلك الجهل ، فيكون مأذونًا فيه ،وربما كان واجبًا.
قال ميمون بن مهران : الكذب في بعض المواطن خير من الصدق ، أرأيت لو أن رجلا سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله ، فدخل دارًا ، فانتهى إليه ، فقال : أرأيت فلانًا ؟ ما كنت قائلاً ألست تقول: لم أره ؟ وما تصدق به . وهذا الكذب واجب .
فتقول : " الكلام وسيلة إلى المقاصد ، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا ، فالكذب فيه حرام ، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحًا ، وواجب إن كان المقصود واجبًا ".
ومهما كان لا يتم مقصود الحرب ، أو إصلاح ذات البين ، أو استمالة قلب المجني عليه ، إلا بكذب، فالكذب مباح ، إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن ، لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه ، فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغني عنه ، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة . فيكون الكذب حرامًا في الأصل إلا لضرورة .
والذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت : ( ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب ، إلا في ثلاث : الرجل يقول القول يريد به الإصلاح ، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها ) (أخرجه مسلم) وقالت أيضا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وليس بكذَّاب من أصلح بين اثنين فقال خيرًا أو نمى خيرًا ) (متفق عليه) وقالت أسماء بنت يزيد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل الكذب يكتب على ابن آدم ، إلا رجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما ) (أخرجه أحمد بزيادة فيه وهو عند الترمذي مختصر وحسنه)
ولكن الحد فيه ، أن الكذب محذور ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور ، فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر ، ويزن بالميزان القسط ، فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعًا في الشرع من الكذب ، فله الكذب ، وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما ، وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى ، لأن الكذب يباح لضرورة ، أو حاجة مهمة .
" وكل من أتى بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ، ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله : هل هو أهم في الشرع من الصدق أم لا ؟ وذلك غامض جدًا ، والحرام تركه ، إلا أن يصير واجبًا ، بحيث لا يجوز تركه ، كما لو أدى إلى سفك دم ، أو ارتكاب معصية كيف كان " (إحياء علوم الدين ، ج3،ص137،ص 139.)
وعلى ضوء هذا الشرح والبيان الوافي ، نعود إلى السؤال المذكور، وما جاء فيه من اعتذار بأمر لم يحدث ، تخلصًا من الحرج ، وهذا غير الأمور الثلاثة المستثناة في الحديث فهل هو مما يقاس عليها ؟ أم يبقى على أصل الحرمة .
والحقيقة ، أننا إذا نظرنا إلى السؤال نجدأن الأخ ارتكب خطأين اثنين :
الأول : أنه وعد صديقه بالزيارة وأخلف ، مع أن الوفاء بالوعد واجب ، وإخلافه من آيات النفاق ، كما ذكرنا ، إلا من عذر.
الثاني : أنه برر هذا الإخلاف بعذر مختلق ، فعالج الخطأ بخطأ آخر . على نحو ما قال الشاعر :
إذا استشفيت من داء بداء فاقتل ما أعلك ما شفاك
وكان الأولى به أن يقول الحقيقة ، وإن ظهر تقصيره ، حتى لا يعود إلى ذلك مرة أخرى . ولا مانع من التلطف والترفق في اختيار الصيغة التي يظهر بها الحقيقة لصديقه . ومن التلطف المباح هنا أن نستخدم ( المعاريض ) بدل الكذب الصريح. فقد نقل عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب. وقال عمر : أما في المعاريض ما يكفي الرجل عن الكذب؟ (رواه ابن عدي والبيهقي عن عمران بن حصين مرفوعًا وموقوفًا ، قال البيهقي : الصحيح موقوف .) وروى ذلك عن ابن عباس وغيره . وإنما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب . فأما إذا لم تكن حاجة أو ضرورة ، فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعًا ، ولكن التعريض أهون .
ومثال التعريض ما روى أن مطرف بن عبدالله أحد علماء التابعين الأجلاء ، دخل على زياد بن أبيه الوالي الأموي المعروف ، فسأله الوالي عن سبب تأخره في زيارته ، فقال : ما رفعت جنبي منذ فارقت الأمير إلا ما رفعني الله . ففهم الأمير منه أنه يتعلل بمرض أصابه ، مع أن السليم أيضًا لا يرفع جنبه إلا ما رفعه الله ، وهذا ما قصده مطرف .
فإذا لم يحضره، أو لم يمكنه التعريض بمثل ما ذكرنا ، فهل يجوز له التصريح بالكذب ، كما فعل السائل ؟
والجواب هنا يتوقف على معرفة مدى العلاقة بين الصديقين ، وهل يخشى أن تسوء أو تضعف إذا ذكرت ما وقع بالفعل ؟ فإذا خشي ذلك ،وكان قلب الصديق لا يطيب إلا بمثل ما اعتذر به إليه، كان ذلك من باب الضرورة التي تقدر بقدرها ، على ألا يتخذ ذلك عادة ، فيسهل الكذب عليه لحاجة ، ولغير حاجة .
والتشديد في هذا النوع من الكذب ليس معناه أن حرمته في درجة ما جاء في السؤال من الكذب في البيع والمعاملة ، أو الكذب في الشهادة ونحوها ، فإن الكذب المحرم تتفاوت مراتبه تفاوتًا بعيدًا .
فمنه ما هو من صغائر المحرمات .
ومنه ما هو من كبائر المحرمات ، كالكذب في الشهادة التي عدها النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر ، وقرنها القرآن والسنة بالإشراك بالله تعالى .
ومثل ذلك الكذب في اليمين ، كالذي يفعله التجار لترويج السلعة ، ففي الحديث : ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، المنان بعطيته ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ، والمسبل إزاره - أي يطيل ثيابه كبرًا واختيالاً - ) ...(رواه مسلم)
وكذلك كذب الملوك والرؤساء ، لما وراءه من دجل وتضليل ، ففي الصحيح : ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان ، وملك كذاب ، وعائل ( أي فقير ) مستكبر )(رواه مسلم أيضًا)
ومثله الكذاب ، الذي يكذب الكذبة فتنتشر عنه في الآفاق ، مثل أصحاب الصحف ، ووكالات الأنباء في عصرنا .
وشر من هذا كله ، الكذب على الله ورسوله ، كما في الحديث المتواتر : ( من كذب عليَّ متعمدًا ، فليتبوأ مقعده من النار ) .
فانتبهوا إخوانى وإخوتى لما تقولون وما يخرج من ألسنتكم